المركز الأفريقي للاستشارات African Center for Consultancy

تقدير موقف

تقدير موقف سياسي صادر عن المركز الأفريقي للاستشارات حول تطورات الأوضاع في مالي

09/11/2025
تقدير موقف سياسي صادر عن المركز الأفريقي للاستشارات حول تطورات الأوضاع في مالي

صادر عن المركز الافريقي للإستشارات
9 نوفمبر 2025

تشهد مالي في الآونة الأخيرة تصاعداً خطيراً في التوترات السياسية والأمنية، وسط حالة من الانهاك الداخلي والعزلة الإقليمية والدولية. تشير التقارير الميدانية إلى أن العاصمة باماكو أصبحت تحت ضغط متزايد نتيجة حصار لوجستي وأمني تفرضه الجماعات المسلحة المرتبطة بتنظيمات متشددة ، والتي صعّدت منذ سبتمبر 2025 من عملياتها الهادفة إلى قطع خطوط الإمداد الرئيسية المؤدية إلى العاصمة. وقد أدى هذا الحصار إلى تفاقم أزمة الوقود وارتفاع الأسعار وانقطاع الكهرباء وتوقف المدارس والأسواق، الأمر الذي وصفته بعض المصادر الصحفية بأنه بداية أزمة إنسانية في قلب المدن الكبرى.

على المستوى السياسي، يسيطر المجلس العسكري بقيادة العقيد عاصمي غويتا على المشهد، بعد أن أقرّ مجموعة من التشريعات التي منحت السلطة فترات أطول وألغت الأحزاب السياسية، ما أفضى إلى إغلاق شبه كامل للحيّز السياسي العام. وذكرت وكالات الأنباء أن السلطات أعلنت رسمياً حل الأحزاب بحجة “إعادة تنظيم المشهد الوطني”، في خطوة أثارت انتقادات داخلية ودولية اعتبرتها مؤشراً على انحدار العملية السياسية نحو الحكم الفردي. وقد صرّح مراقبون أن هذه الإجراءات عززت عزلة النظام وأضعفت فرص الانتقال إلى الحكم المدني، بينما تتنامى داخل الشارع حالة من التململ والاحتقان بسبب تردي الأوضاع المعيشية وغياب الأفق السياسي.

أما في الجانب الأمني، فقد شهدت البلاد تحولاً جوهرياً في طبيعة الفاعلين الخارجيين. فبعد تراجع الوجود الفرنسي وانسحاب بعثة الأمم المتحدة (مينوسما)، ظهرت كيانات روسية جديدة تحل محل مجموعة "فاغنر" السابقة، في إطار إعادة هيكلة للوجود العسكري الروسي تحت مسمى "الفيلق الأفريقي". وأفادت تقارير دولية أن هذا الوجود الجديد لم يغيّر في جوهر العلاقات، إذ استمرت أنماط العمليات والانتهاكات الميدانية نفسها ضد المدنيين، خاصة في المناطق الوسطى والشمالية. وأكدت منظمات حقوقية أن عام 2025 شهد تزايداً في حالات الاختفاء القسري والإعدام الميداني، خصوصاً بين أبناء مجتمع الفولاني، الأمر الذي يهدد بعودة النزاعات العرقية ويفتح الباب أمام موجات انتقام محلية.

يتقاطع المشهد الداخلي المتأزم مع توازنات إقليمية متغيرة. فمع انسحاب القوى الغربية التقليدية، تسعى باماكو إلى بناء تحالفات جديدة مع دول الجوار ومع روسيا لتعويض الفراغ الأمني. كما أشارت تقارير الاتحاد الأفريقي إلى اتصالات متبادلة لإطلاق وساطة بين الحكومة وبعض الجماعات المسلحة، إلا أن ضعف الثقة المتبادل يجعل فرص نجاح هذه المساعي محدودة. وفي الوقت ذاته، تتابع دول المنطقة بقلق تمدد نشاط الجماعات المسلحة من شمال مالي إلى حدود النيجر وبوركينا فاسو، في ظل تراجع قدرة جيوش الساحل على التنسيق الميداني بعد انسحابها من مجموعة “G5 الساحل”.

أن الأزمة في مالي تتجاوز الطابع الأمني لتكشف عن أزمة عميقة في شرعية الدولة وآليات الحكم. فالحكومة الحالية، بعد انقلابَي 2020 و2021، فقدت قدرتها على بناء توافق وطني، بينما أدت الإجراءات الأخيرة إلى إغلاق المجال السياسي المدني، وهو ما يمهّد لسيناريوهات أكثر هشاشة. في المقابل، تطور الجماعات المسلحة تكتيكاتها بعيداً عن الهجمات المباشرة إلى أساليب الحصار الاقتصادي وقطع الإمدادات، في محاولة لفرض وقائع سياسية على الأرض.

تُظهر مؤشرات الوضع الراهن أن البلاد تتجه نحو مرحلة أكثر اضطراباً ما لم تُتخذ خطوات عاجلة لمعالجة الأزمة الإنسانية والسياسية معاً. فاستمرار الحصار على الطرق وغياب الوقود والمواد الأساسية في المدن الكبرى، إضافة إلى التدهور في الحريات العامة، يشير إلى احتمالية انفجار اجتماعي واسع أو انهيار إضافي لمؤسسات الدولة. وقد حذرت منظمات محلية ودولية من أن "العسكرة المطلقة للحكم" تفتح الباب لانقسامات داخلية في المؤسسة العسكرية ذاتها، وربما لانقلاب داخلي جديد في حال استمر الضغط الشعبي والأمني معاً.

في المقابل، هناك فرص محدودة ولكن ممكنة للتهدئة من خلال وساطة إقليمية تقودها أطراف أفريقية محايدة، تركز في البداية على هدنة إنسانية لفتح طرق الإمداد، قبل الانتقال إلى نقاش حول خارطة طريق سياسية تشمل التزامات زمنية واضحة لإعادة السلطة المدنية وتنظيم انتخابات خاضعة لرقابة دولية. وقد صرّح مصدر دبلوماسي أفريقي بأن “التهدئة الميدانية يجب أن تسبق أي حديث عن انتخابات”، في إشارة إلى الحاجة لضمان الأمن قبل الدخول في المسار السياسي.

أن أي معالجة واقعية للوضع في مالي يجب أن تبدأ من ثلاث نقاط أساسية: حماية المدنيين ووقف الانتهاكات الممنهجة، إعادة فتح خطوط الإمداد وتأمين الخدمات الحيوية في العاصمة والمدن الكبرى، ثم إطلاق عملية سياسية شاملة وتحدّد سقفاً زمنياً للانتقال الديمقراطي. ومن المهم والمطلوب من الدول الأفريقية والشركاء الدوليين الحفاظ على قنوات الاتصال مع الأطراف المالية كافة، وتكثيف المساعدات الإنسانية الميدانية، مع الضغط باتجاه المساءلة عن الجرائم والانتهاكات التي توثّقها المنظمات الحقوقية.

ختاماً أن مالي تقف اليوم عند مفترقٍ مصيريٍّ بين مسارين: الأول هو الانحدار نحو مزيد من الفوضى والعزلة بفعل عسكرة السلطة وتصاعد الانتهاكات وخطر الجماعات الارهابية التى تزيد من تعقيد المشهد ، والثاني هو بداية إعادة بناء الدولة عبر تسوية تدريجية تعيد التوازن بين الأمن والسياسة. الخيار ما زال بيد الفاعلين المحليين، لكن نافذة الفرص تضيق يوماً بعد يوم في ظل استمرار الحصار المفروض على مالي بسبب قطع طرق الامداد التى تقوم بها الجماعات المتطرفة ، وتدهور الأوضاع الإنسانية، وتنامي حضور الفاعلين الخارجيين غير الخاضعين للمساءلة. أن استعادة الاستقرار في مالي لن تتحقق إلا من خلال معالجة جذور الأزمة، أي استعادة الشرعية السياسية، وإرساء عقد وطني جديد يعيد الثقة بين الدولة والمجتمع يساعد مالي على تجاوز الازمات التى تخنق بامكو وتجعلها فريسة لصراعات داخلية حول السلطة وحرب داخلية ضد نشاط الجماعات المتطرفة المحموم وتدخل وتقاطعات خارجية معقدة .