المركز الأفريقي للاستشارات African Center for Consultancy

اصدارات دورية

جنوب السودان بين سلامٍ هشٍّ وبنيةٍ تُعزّز من الاستتباع للخارج

01/11/2025
جنوب السودان بين سلامٍ هشٍّ وبنيةٍ تُعزّز من الاستتباع للخارج

ترجمة عن وكالات أنباء وصحف دولية
المقدمة
بعد سبع سنواتٍ على توقيع الاتفاق المنشّط لحل النزاع في جمهورية جنوب السودان (R-ARCSS)، الذي جرى بعد سلسلةٍ من المفاوضات التي استضافتها الخرطوم في منتصف عام 2018 وانتهت بالتوقيع النهائي في الثاني عشر من سبتمبر من العام نفسه في أديس أبابا، تقف الدولة الوليدة اليوم أمام مشهدٍ سياسيٍّ بالغ التعقيد؛ إذ يتقاطع فيه انهيار مسار السلام مع ترسّخ الحكم الفردي وتعمّق الارتهان والتبعية الخارجي.
فما كان يُفترض أن يكون اتفاقًا لتقاسم السلطة وإنهاء عقدٍ من الاحتراب الأهلي، تحوّل تدريجيًا إلى نظامٍ يعتمد في بقائه على رعاةٍ خارجيين، حمايةٍ عسكريةٍ توفرها يوغندا، ودعمٍ ماليٍّ وغطاءٍ دبلوماسيٍّ يأتي من الإمارات العربية المتحدة لمختلف الأسباب.
بحلول أواخر عام 2025، تآكلت روح الاتفاق بالكامل. فمحاكمة النائب الأول للرئيس رياك مشار، وحملة القمع الواسعة ضدّ تعبئة الجيش الأبيض ذي الطابع القبلي، والانهيار الاقتصادي الذي سبّبته الحرب في السودان، مجتمعةً أدّت إلى ولادة نظامٍ سلطويٍّ جديد يقوم على البقاء عبر تحالفاتٍ أمنيةٍ وماليةٍ خارجيةٍ لا عبر الشرعية الدستورية أو الإجماع والتوافق الوطني.
أولًا: الاتفاق المنشّط وهيكليته المتآكلة
أُعيد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية بموجب الاتفاق المنشّط لتضمّ رئيسًا وخمسة نوّابٍ للرئيس، وتتبنّى خارطة طريقٍ تنتهي بانتخاباتٍ عامة. كما نصّ الاتفاق على دمج كل الجيوش المسلحة في جيشٍ وطنيٍّ موحّد، وإنشاء مؤسساتٍ للعدالة الانتقالية، وصياغة دستورٍ دائمٍ بإشراف الهيئة الحكومية للتنمية (الإيقاد) والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة.
غير أنّ المسار التنفيذي بدأ يتآكل مبكرًا، ففي تقارير مطلع عام 2025، وصفت لجنة المراقبة المشتركة والمُعاد تشكيلها (RJMEC) التنفيذ بأنه في حالة "شللٍ شبه كامل". فالقوات لم تُدمج، واللجان الدستورية لم تُفعَّل، وآليات العدالة الانتقالية ظلّت حبرًا على ورق.
وتم تمديد المرحلة الانتقالية مرتين (في 2022 و2023)، ثم أُجِّلت الانتخابات مجددًا إلى ديسمبر 2026 على أن تبدأ الحكومة الجديدة في فبراير 2027، وهكذا تحوّلت المرحلة الانتقالية إلى حالةٍ سياسيةٍ دائمة، وأصبح الاتفاق إطارًا لتجميد الصراع لا لتجاوزه.
من حيث الشكل، ظلّ الاتفاق قائمًا؛ لكن مضمونه القائم على المشاركة والرقابة المتبادلة انهار، وجاءت إطاحة رياك مشار ومحاكمته لتؤكد أن السلطة لم تعد تدار بتوافق الشركاء، بل باحتكارٍ متزايدٍ للقرار السياسي والعسكري في يد الرئيس أو حاشيته.
ثانيًا: تحوّل رياك مشار من شريكٍ إلى متَّهَم
1.جذور الصدام وأحداث ناصر
تُعدّ مدينة ناصر، الواقعة على ضفاف النيل الأبيض في ولاية أعالي النيل قرب الحدود الإثيوبية، إحدى المعاقل التاريخية لحركة المعارضة المسلحة بقيادة رياك مشار منذ تسعينيات القرن الماضي. فهي تحتضن قاعدة اجتماعية واسعة من قومية النوير، وتشكل في المخيال السياسي الجنوبي رمزًا لبدايات الانشقاق عن الحركة الشعبية الأصلية عام 1991 فيما عُرف بـ"انقسام ناصر".
ومنذ توقيع اتفاق السلام المنشّط عام 2018، ظلّت ناصر مركزًا حساسًا للتوازن بين قوات الحكومة والمعارضة، ومحكًّا لمدى التزام الطرفين بوقف إطلاق النار الدائم. في الأسبوع الأول من مارس 2025، تصاعد التوتر في المنطقة إثر تقارير عن حشودٍ مسلّحةٍ من "الجيش الأبيض" — وهي مجموعات شبابية محلية من النوير — اقتربت من نقاطٍ تابعةٍ للجيش الشعبي الحكومي (SSPDF)K وتحوّل الاحتكاك إلى مواجهاتٍ مفتوحةٍ في 10 مارس أدّت إلى سقوط عشرات القتلى من الطرفين، واستيلاء المسلحين على مواقع محدودة قرب ناصر.
ردّت جوبا باتهام الحركة الشعبية – في المعارضة (SPLM-IO) بالتنسيق مع المجموعات المحلية لإطلاق “تمرّد جديد تحت غطاءٍ قبلي"، بينما نفت الحركة ذلك مؤكدةً أن المقاتلين "لا يتبعون لها تنظيميًا وأن الحكومة تستخدم الحادثة ذريعةً لتصفية الحسابات السياسية مع مشار".
في 16 و17 مارس، شنّ سلاح الجو التابع لـقوات الجيش الشعبي لجنوب السودان (SSPDF)، بمشاركةٍ لوجستيةٍ من الجيش الأوغندي (UPDF)، غاراتٍ مكثفة على محيط ناصر، أوقعت – بحسب منظمات محلية – ما لا يقلّ عن عشرين قتيلًا، بينهم نساءٌ وأطفال.
أعلنت الحكومة لاحقًا "استعادة السيطرة الكاملة على المنطقة"، لكنّ تداعيات الهجوم كانت أعمق من الحدث العسكري نفسه، إذ فجّرت أزمة سياسية داخل الحكومة الانتقالية بين شريكي السلام.
2. من التطويق إلى الإقصاء السياسي
في أعقاب أحداث ناصر، أُحيط منزل النائب الأول للرئيس رياك مشار في جوبا بوحداتٍ أمنية وعسكرية، وجرى اعتقال عددٍ من أبرز قياداته السياسية والعسكرية، من بينهم بوط كانغ شول وزير النفط وعدة ضباط من الجيش الموحّد قيد التشكيل، من ضمنهم نائب رئيس هيئة أركان الجيش الشعبي الذي يتبع لقوات مشار.
وبرّرت الحكومة هذه الخطوة بأنها "إجراء احترازي لحماية الأمن القومي"، في حين عدّتها المعارضة خرقًا مباشرًا لاتفاق 2018 الذي يمنع اتخاذ تدابير أحادية ضدّ أطرافه.
في 28 مارس 2025، أصدرت الحركة الشعبية لتحرير السودان – في المعارضة (SPLM-IO) بيانًا أكّدت فيه: "إنّ الحركة ما زالت ملتزمة بتنفيذ اتفاق السلام المنشّط نصًّا وروحًا، رغم احتجاز عددٍ من قياداتها في انتهاكٍ واضحٍ لبنود الاتفاق"، ودعت الإيقاد والاتحاد الإفريقي إلى التدخّل العاجل "لمنع انزلاق البلاد نحو مواجهةٍ شاملة".
بعد أسابيع، وتحديدًا في أبريل، أعلنت الحركة أن مشار وُضع فعليًا تحت الإقامة الجبرية، ووصفت الخطوة بأنها «إعادة إنتاج لظروف عام 2013 التي قادت إلى الحرب».
وجاء في بيانها أنّها «علّقت مشاركتها في بعض اللجان التنفيذية المشتركة احتجاجًا على الإجراءات الأحادية».
ردّت الحكومة على ذلك ببيانٍ مضاد أكّدت فيه أنّ “الإقامة الجبرية إجراءٌ وقائي مؤقت يهدف إلى تسهيل التحقيق”، وأنّ مشار “لا يُعامل كمحتجز سياسي بل كشاهدٍ يخضع للاستجواب”.
3. بداية المحاكمة ونهاية الشراكة
في الحادي عشر من سبتمبر 2025، أعلنت وزارة العدل فتح الدعوى الجنائية ضدّ مشار وثمانيةٍ من معاونيه، ووجّهت إليهم تهمًا شملت الخيانة العظمى والقتل العمد وجرائم ضد الإنسانية.
وقالت الناطقة باسم الحكومة إنّ "التحقيقات أثبتت تورّطهم في التخطيط والتنسيق مع عناصر من الجيش الأبيض لزعزعة استقرار البلاد".
جاء ردّ الحركة سريعًا عبر بيانٍ نشرته مكاتبها في جوبا وأديس أبابا، وصفت فيه الاتهامات بأنها: "ملفّقة وتخدم هدفًا سياسيًا يتمثّل في إقصاء مشار وحزبه من العملية السياسية"، وأكدت أنّ المحاكمة "تمثّل خرقًا جوهريًا لاتفاق 2018 ونسفًا لمبدأ تقاسم السلطة".
وفي حين قالت الحكومة إنّ القضية "مسارٌ قضائيٌّ داخليٌّ لمعاقبة المحرّضين على العنف"، رأت أطرافٌ إقليمية ودولية في الإيقاد والأمم المتحدة أنّ الإجراءات تحمل طابعًا سياسيًا واضحًا، محذّرين من أنّها "قد تُعيد البلاد إلى مناخ الاستقطاب الإثني والعسكري الذي سبق الحرب الأهلية".
4. الدلالات السياسية
مثّلت محاكمة رياك مشار الضربة القاضية لاتفاق السلام المنشّط، إذ ألغت عمليًا مبدأ الشراكة الثنائية الذي شكّل أساس المرحلة الانتقالية، فمنذ توقيفه، تلاشت الحدود بين "الخصومة السياسية" و"الخيانة"، وتحولت السلطة التنفيذية إلى خصمٍ وحَكَمٍ في آنٍ واحد.
وبينما تمسّك جناح كير بخطاب "فرض هيبة الدولة"، اعتبرت الحركة الشعبية – في المعارضة أنّ "هيبة الدولة لا تُبنى على إخضاع الشركاء، بل على احترام الاتفاقات"، وهكذا انزلقت البلاد إلى وضعٍ جديدٍ يكون فيه التعويل على القوة والقضاء بدل التوافق، ومؤسساتٌ انتقالية تحوّلت إلى أدواتٍ لتجريم المعارضة، لا إلى فضاءٍ للمشاركة الوطنية.
ثالثًا: الجيش الأبيض والعسكرة الجديدة لمسار السلام
يُمثِّل “الجيش الأبيض” ظاهرةً مركّبةً في التاريخ السياسي والاجتماعي لجنوب السودان، فهو ليس جيشًا نظاميًا بالمعنى المؤسسي، بل تشكيلٌ أهليٌّ مسلّح يتكوّن أساسًا من شبّان قومية النوير في المناطق الريفية الممتدة بين أعالي النيل وجونقلي والوحدة. وقد نشأ في ثمانينيات القرن الماضي كقواتٍ لحماية الماشية والقرى، قبل أن يتحوّل تدريجيًا إلى قوةٍ مسلحةٍ محلية شاركت في الحروب الأهلية المتعاقبة، تارةً إلى جانب الحركة الشعبية، وتارةً في مواجهتها، تبعًا للتوازنات الإثنية والسياسية.
منذ توقيع اتفاق 2018، ظلّت الحكومة تتعامل مع هذه المجموعات بقدرٍ من التسامح الحذر، إذ اعتُبر تفكيكها شرطًا أساسيًا لنجاح عملية توحيد القوات المنصوص عليها في الاتفاق المنشّط، لكن مع فشل تلك العملية، ومع تصاعد الغضب المحلي من انتهاكات الجيش الحكومي، بدأ “الجيش الأبيض” يستعيد نشاطه مطلع عام 2025، في شكل مواجهاتٍ متقطعةٍ في ولايتي أعالي النيل وجونقلي.
تُظهر الشهادات الميدانية – حسب موقع ذا نيو هيومانيتيريان – أنّ الحراك الأخير للجيش الأبيض لم يكن تمرّدًا منسَّقًا كما قدّمته جوبا، بل موجة غضبٍ محليةٍ غذّتها تجاوزات عناصر الجيش الحكومي في قُرى النوير، بما في ذلك مصادرة الماشية والاعتقالات العشوائية، غير أنّ الحكومة رأت فيها “مؤامرةً ذات بعدٍ سياسي” مرتبطة بفصيل رياك مشار، أو ربما فرصة للتخلص منه.
تطورت الحادثة سريعًا إلى مواجهةٍ واسعةٍ حين تحركت مجموعات من “الجيش الأبيض” نحو مواقع حكومية في محيط المدينة، وردّ الجيش الشعبي لتحرير السودان (SSPDF) بالقصف المدفعي والجوي. وبينما أصدر قادة SPLM-IO بياناتٍ تنفي أيّ علاقة تنظيمية لهم مع الجيش الأبيض، استغلت الحكومة الحادثة لإطلاق حملةٍ عسكريةٍ واسعة تحت ذريعة "محاربة الإرهاب"، واستدعاء تدخل عسكري يوغندي.
رابعًا: الدور اليوغندي – من ضامنٍ للاتفاق إلى شريكٍ في القمع
1.دخول الجيش اليوغندي والجدل القانوني
في مطلع مارس 2025، أعلنت يوغندا رسميًا نشر وحداتٍ خاصة من جيشها الشعبي (UPDF) في العاصمة جوبا "لتأمين المؤسسات الحيوية ومنع تسلل الجماعات المسلحة"، لكنّ تقارير متعددة أكدت أن الانتشار تم بطلبٍ مباشرٍ من حكومة سلفا كير وقيادة الجيش الشعبي لتحرير السودان (SSPDF)ما أعاد إلى الأذهان تجربة عامي 2013 و2016 حين تدخلت يوغندا عسكريًا لإنقاذ النظام من الانهيار.
أثار القرار جدلًا سياسيًا وقانونيًا داخل كمبالا، إذ انتقد نوابٌ في البرلمان غياب أي تفويضٍ رسمي يجيز للجيش العمل خارج الحدود، محذرين من تكرار تجاوز السلطة التنفيذية لصلاحياتها، ورغم التبريرات الرسمية بأنّ الانتشار جاء بطلب من “دولةٍ شقيقةٍ وعضوٍ في الإيقاد”، فقد اتضح سريعًا أن القوات اليوغندية انخرطت مباشرة في العمليات القتالية، بعد مشاركتها في غاراتٍ جوية ومدفعية إلى جانب الجيش الشعبي في محيط ناصر، وهو ما تناقض مع وصف جوبا للتدخل بأنه "دعمٌ فنيٌّ ولوجستي".
تزامن هذا التدخل مع تحوّلٍ لافتٍ في الخطاب السياسي، حيث انتقل الحديث في جوبا من "تنفيذ السلام" إلى "فرض الأمن"، في ما بات يوصف محليًا بـ "أمننة السلام"، أي تحويل اتفاق السلام إلى غطاءٍ لتوسيع السيطرة العسكرية، لا لتثبيت التوافق السياسي.
2. تغريدات موهوزي كاينيروجابا والجدل الإقليمي
عمّقت تصريحات قائد الجيش اليوغندي الجنرال موهوزي كاينيروجابا، نجل الرئيس يوري موسيفيني، من أزمة الثقة المحيطة بالدور اليوغندي، فبين 18 و23 مارس 2025، نشر موهوزي سلسلة تغريداتٍ على منصة “إكس” (تويتر) قال في إحداها: "لقد سئمت من قتل النوير. هؤلاء إخوتنا، لكنهم يحتاجون إلى قائدٍ واحدٍ يطيعونه. على د. رياك مشار أن يخضع لعمه سلفا"، وفي تغريدة أخرى وصف سلفا كير بـ“العم” مؤكّدًا أنّ "أي تهديدٍ ضده يُعدّ إعلان حربٍ على يوغندا".
أثارت هذه التصريحات موجة استنكارٍ إقليمية في جوبا وأديس أبابا ونيروبي، وعدّتها المعارضة في جنوب السودان إعلانًا صريحًا بانحياز الجيش اليوغندي، ودليلًا على أنّ تدخله لم يكن لحماية المدنيين بل لترجيح كفة النظام الحاكم.
أما منظمات المجتمع المدني فقد رأت في عبارة "سئمت من قتل النوير" خطابًا ذا طابعٍ إثنيٍّ خطيرٍ يهدّد السلم الأهلي ويقوّض أي إمكانيةٍ للمصالحة الوطنية، ولم تصدر وزارة الخارجية اليوغندية نفيًا صريحًا، مكتفيةً بالقول إنّ "الجنرال عبّر عن رأيه الشخصي"، وهو ما فُسِّر كـ تواطؤٍ ضمنيٍ مع المضمون السياسي للتصريحات.
3. الدوافع الأمنية والإقليمية
ينطلق الدور اليوغندي من تصوّرٍ استراتيجيٍ قديمٍ لجنوب السودان بوصفه منطقة عازلة لأمن يوغندا القومي، فأي اضطرابٍ في الشمال ينعكس فورًا على الحدود اليوغندية من خلال تدفّق اللاجئين وتنامي التهريب والسلاح، أو احتمال عودة فلول جيش الرب، ومن ثمّ، تتبنى كمبالا مبدأ "الاحتواء المسبق"، أي معالجة الخطر خارج الحدود قبل أن يتسلّل إليها.
لكن هذا الهاجس الأمني تحوّل في السنوات الأخيرة إلى ذريعةٍ لبسط النفوذ الإقليمي، خصوصًا بعد تراجع الدور الإثيوبي وانكفاء السودان، فبينما اكتفت الإيقاد بدعوات الحوار، قدّمت يوغندا نفسها كـ الضامن العملي للأمن الإقليمي، مكتسبةً نفوذًا تفاوضيًا مضاعفًا على حساب نيروبي وأديس أبابا والخرطوم المشغولة بمهددات وجودية.
4. التحالف الشخصي وحسابات بقاء النظام
كذلك فإن العلاقة بين يوري موسيفيني وسلفا كير تقوم على تحالفٍ تاريخيٍّ متبادلٍ منذ حرب التحرير ضد الخرطوم، فكمبالا توفّر لسلفا الدعم العسكري والسياسي، بينما يتيح كير ليوغندا منفذًا اقتصاديًا وأمنيًا شماليًا يحُدّ من أي تمددٍ سودانيٍّ محتمل، ومع تصاعد الخلاف بين كير ومشار منذ بداية هذا العام، اعتبر موسيفيني أنّ سقوط النظام في جوبا سيُفقده أهمّ حلفائه الإقليميين، لذا جاء التدخل العسكري كإجراءٍ وقائيٍ لضمان بقاء الحليف الاستراتيجي، لا التزامًا ببنود اتفاق السلام.
5. الاقتصاد كدافعٍ للحرب والسلام
جنوب السودان هو أكبر سوقٍ للسلع اليوغندية، إذ تستورد أكثر من نصف مليار دولار سنويًا من المواد الغذائية ومواد البناء والمنتجات المصنعة، كما تشكّل طريق نُمُلي–جوبا شريانًا حيويًا للتجارة البرية اليوغندية نحو القرن الإفريقي، وبذلك يصبح أي اضطرابٍ في الجنوب تهديدًا مباشرًا لمصالح كمبالا التجارية ومصدرها الأساسي للعملة الصعبة، ما يفسّر جزئيًا حرص يوغندا على إبقاء الوضع في جوبا تحت السيطرة، ولو عبر القوة.
6. البُعد الشخصي وصعود "الدبلوماسية العسكرية"
تحوّل التدخل في جنوب السودان إلى منصةٍ شخصيةٍ لتمكين موهوزي كاينيروجابا، الذي يقدّم نفسه كقائدٍ إفريقيٍّ ضامنٍ للاستقرار الإقليمي، فمن خلال الخطاب الشعبوي والتصريحات الحادة، حاول رسم صورةٍ ليوغندا كـ “قوةٍ صديقةٍ لا تتردد في استخدام السلاح لحماية السلام"، وفي المقابل كشف هذا السلوك عمليًا عن ما يمكن تسميته بـ"صدأ الدبلوماسية اليوغندية".
7. تداخل المصالح مع الإمارات
تزامن الانتشار اليوغندي مع توسّع النفوذ الإماراتي في جوبا، فقد أُبرمت تفاهماتٌ أمنيةٌ واقتصاديةٌ متوازية بين كمبالا وأبوظبي، تمحورت حول حماية النظام وتسهيل استثمارات الطاقة والبنى التحتية، وبذلك أصبح الدور اليوغندي جزءًا من محورٍ ثلاثيٍّ غير معلن يضم يوغندا والإمارات وجنوب السودان، وهو في جوهره تحالف لإعادة توزيعٍ إقليميٍ لمناطق النفوذ بعد تراجع الدورين السوداني والإثيوبي.
8. شرعية النظام ومكاسب موسيفيني الداخلية
قدّمت العملية العسكرية مادةً دعائية جاهزة للرئيس موسيفيني، الذي أكّد أنّ جيشه هو “الأكثر انضباطًا واحترافًا في إفريقيا”، مستخدمًا التدخل الخارجي كدليلٍ على كفاءة مؤسسات الدولة في يوغندا واستمرارية القيادة. في الوقت نفسه، ساعدت الحرب على صرف الأنظار عن أزمات الفساد والتضخم، وأحيت الخطاب القومي الذي يربط بين الأمن الإقليمي و“القيادة التاريخية” للرئيس. وبذلك تحوّل التدخل في جنوب السودان إلى أداةٍ لتعزيز الشرعية في الداخل، كما أصبح اتفاق السلام ذاته وسيلةً لتثبيت النظامين في جوبا وكمبالا معًا بمساعدة من أبوظبي.
خامسًا: الدور الإماراتي والاقتصادي – من الائتمان النفطي إلى هندسة النفوذ
1.اقتصادٌ مُعلّق بأنبوب مُعطَّل
منذ الانفصال، ظلّ اقتصاد جنوب السودان قائمًا على النفط، الذي يشكّل أكثر من تسعين في المئة من إيرادات الدولة.
ويُصدَّر جنوب السودان الخام عبر الأنبوب الذي يمر من ولاية الوحدة شمالًا إلى ميناء بشائر على ساحل البحر في مدينة بورتسودان، ما جعل اقتصاد الجنوب يتأثر بما يحدث لجارتها الشمالية سياسيًا واقتصاديًا في آنٍ واحد.
ومنذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023 تأثر هذا الشريان تدريجيًا حتى إغلاقه في بدايات 2024 بسبب ما تعرض له من أضرارٍ كبيرة في مناطق النيل الأبيض وسنار، وفق بيانات وزارة النفط وتقارير الأمم المتحدة، ومع ذلك التوقف، انهارت الإيرادات، وواجهت الحكومة في جنوب السودان عدم قدرة في الإيفاء بالرواتب وندرة في العملات الأجنبية، لتدخل مرحلةً من الاعتماد شبه الكامل على المساعدات والقروض.
2. صفقة الائتمان النفطي مع الإمارات
في خضمّ هذه الأزمة، تم الإعلان في منتصف 2024 عن اتفاقٍ تمويليٍّ بين جنوب السودان مع الإمارات العربية المتحدة قُدِّرت قيمته بنحو 13 مليار دولار، قيل إنه يمتدّ لعشر سنوات ويموَّل بضمان صادرات النفط المستقبلية، الاتفاق – الذي نُسب إلى شركة إماراتية خاصة (Hamad Bin Khalifa Department of Projects) – شمل وعودًا بتمويل مصفاة جوبا لتكرير النفط وتوسعة مطار واو، إلى جانب قروضٍ ميسّرة ومساعداتٍ إنسانية، لكن بعد الضجة الأولى، اتضح أن الصفقة لم تدخل حيّز التنفيذ الكامل.
فلم تُعلن أي دفعاتٍ فعلية، ولم تُعرض تفاصيل السداد أو الكميات المخصّصة من النفط، كما لم تُدرج في ميزانية الدولة، أي بعبارةٍ أخرى، تحوّل الاتفاق إلى إطار سياسي أكثر من كونه التزامًا ماليًا نافذًا، وإن ظلّ ضخمًا بما يكفي ليجعل الإمارات أحد أبرز الدائنين المحتملين لجوبا.
3. أزمة الشحن وإعادة توجيه النفط
في منتصف 2025، تأثرت العلاقة الاقتصادية بين جوبا وأبوظبي بالأزمة المتصاعدة بين السودان والإمارات، بعد تصنيف الخرطوم لأبوظبي كـ "دولة معتدية" بعد التصعيد الذي صاحب قصف مواقع حيوية في العاصمة الإدارية المؤقتة في بورتسودان، منها محاولة استهداف مقر إقامة رئيس مجلس السيادة السوداني، وبعد ذلك بفترة توقفت الموانئ الإماراتية عن استقبال وتصدير الشحنات المرتبطة ببورتسودان، ما شمل بشكلٍ غير مباشر الخام الجنوبي الذي يُنقل عبر الأراضي السودانية إلى موانئ الإمارات.
وجدت جوبا نفسها فجأةً بلا منفذٍ آمن لتسويق نفطها، واضطرت إلى تحويل الشحنات إلى الأسواق الآسيوية عبر ترتيباتٍ جديدة مع شركاتٍ في ماليزيا وسنغافورة، وبذلك أصبحت الصفقة الإماراتية معلّقة بين السياسة والاقتصاد، فلا هي مُلغاة رسميًا، ولا هي سارية عمليًا، في وقتٍ خسر فيه الجنوب أحد أهم منافذه اللوجستية والتجارية.
4. الحضور الميداني: المستشفى في أويل
لم يقتصر الدور الإماراتي في جنوب السودان على التمويل، ففي مارس 2025 افتتحت هيئة الهلال الأحمر الإماراتي مستشفى ميدانيًا في مدينة أويل شمال بحر الغزال، بالقرب من حدود جنوب السودان مع ولايتي غرب كردفان وشرق دارفور اللتين تنتشر فيهما مليشيات الدعم السريع، المشروع قُدِّم رسميًا كمبادرةٍ إنسانية، غير أنّ موقعه أثار كثيرًا من الأسئلة،
إذ يتقاطع مع خط الحدود الساخن الذي يشهد نشاطًا لوجستيًا متصلًا بالحرب في السودان.
رأت بعض الأصوات المحلية أن الموقع اختير لأسبابٍ تتجاوز الجانب الإنساني في ما عدّه مراقبون تكرار لنموذج مستشفى أمجرس شرق تشاد الذي تم استخدامه كنقطة علاج وإجلاء مقاتلي مليشيات الدعم السريع، وغطاء لعمليات الإمداد اللوجستي والعسكري واستجلاب المرتزقة لقتال الجيش السوداني، بينما اكتفت جوبا بالتأكيد أن المستشفى يخدم المجتمعات الحدودية ويوفر خدماتٍ طبية حيوية حتى للاجئين السودانيين، وفي الحالتين، أصبح الوجود الإماراتي في أويل رمزًا لتداخل المساعدات والاعتبارات الجيوسياسية في آنٍ واحد.
5. دبلوماسية الزيارات والولاءات الجديدة
خلال العامين الأخيرين، تكثفت الزيارات المتبادلة بين جوبا وأبوظبي، زار وزير الدولة بالخارجية للشؤون الإفريقية شخبوط بن نهيان آل نهيان العاصمة جوبا مراتٍ عدة، في حين قام الرئيس سلفا كير بعددٍ من الزيارات الرسمية إلى الإمارات بحثًا عن دعمٍ ماليٍّ واستثماري، بلغت خلال العام الحالي ثلاث زيارات.
اللافت كان بروز نائب الرئيس الجديد بول مل، الذي تحوّل إلى واجهةٍ مفضلةٍ لدى الإماراتيين بعد إقصاء رياك مشار.
شارك بول مل في منتدياتٍ اقتصادية في أبوظبي ووقّع مذكرات تفاهم حول مشاريع الطاقة والزراعة، في ما بدا وكأنه محاولة إماراتية لتثبيت شريكٍ سياسيٍ واقتصاديٍ أكثر انسجامًا مع رؤيتها للمنطقة.
سادسًا: الخاتمة
منذ توقيع الاتفاق المنشّط للسلام في جنوب السودان عام 2018 — الذي جرت صياغته في الخرطوم وتوقيعه في أديس أبابا برعاية الإيقاد — بدا أن البلاد تتّجه نحو استقرارٍ هشٍّ يقوم على تسوياتٍ فوقيةٍ بين القادة أكثر من قيامه على بناء مؤسساتٍ ديمقراطيةٍ فاعلة. ومع مرور الوقت، تبيّن أن الاتفاق لم يُنتج سلامًا بقدر ما أرسى نظامًا لتقاسم السلطة والموارد، تُدار توازناته عبر شبكةٍ من التحالفات الإقليمية أكثر مما تُضبط بآلياتٍ وطنيةٍ شفافة.
ينتمي هذا الاتفاق، في جوهره، إلى نموذج “السلام الليبرالي” الذي يُصاغ عادةً تحت إشرافٍ خارجيٍّ ويقوم على صفقاتٍ مؤقتةٍ بين النخب المتنازعة، تُمنح بموجبها مواقع في السلطة مقابل الالتزام بوقف إطلاق النار. وغالبًا ما يستبدل هذا النموذجُ الشرعيةَ المحليةَ بالوصاية الخارجية، فيُنتج التبعية بدل السيادة، ويعجز عن خلق آلياتٍ حقيقيةٍ للمساءلة والمصالحة. ولهذا لم يُحدِث الاتفاق المُنشّط اختراقًا في بنية الحرب، بل أعاد إنتاج النظام ذاته بأشكالٍ جديدة، بعدما فقدت مؤسسات الدولة استقلالها المالي والعسكري، وأصبح تنفيذ بنوده مرهونًا بإرادة الأطراف الضامنة والمموِّلة. وبينما واصلت يوغندا تكريس نفوذها العسكري عبر دعم الجيش الشعبي في جوبا، تمدّد الدور الإماراتي تدريجيًا في تمويل النظام وإدامة استقراره الشكلي، حتى غدت أبوظبي أحد أعمدته غير المعلنة.
ومع اندلاع الحرب في السودان عام 2023 وتراجع دوره الإقليمي، تقلّص تأثير الإيقاد وبرز فراغٌ إقليميٌّ سرعان ما ملأته أبوظبي، فتراجع نفوذ الخرطوم في محيطها الطبيعي، وتحول جنوب السودان تدريجيًا إلى نقطة ارتكازٍ لوجستيةٍ في شبكة النفوذ الممتدة من أبوظبي إلى شرق إفريقيا. هذا التحول يمثّل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي السوداني، إذ تقترب مناطق النشاط العسكري واللوجستي من حدوده الغربية والشمالية، ويُعاد تشكيل بيئة الجنوب كمنصّةٍ خلفيةٍ لأي مشروعٍ معادٍ لوحدة السودان واستقراره.
إن لحظة الكمون التي يعيشها السودان لا يمكن أن تطول؛ فالصمت أمام هذا التحوّل يعني التسليم بتراجعٍ أعمق في نفوذ الدولة وقدرتها على حماية مجالها الحيوي. والنموذج القائم في الجنوب، وإن بدا انتصارًا مؤقتًا للنظام الحاكم، إلا أنه يحمل في طيّاته تهديدًا طويل الأمد، لأن أسئلة بناء الدولة والهوية والمؤسسات ما تزال قائمة دون إجابة — وهي ذات الأسئلة التي تواجهها دول القرن الإفريقي كافة، من مقديشو إلى أديس أبابا وجوبا، حيث تتقاطع هشاشة المؤسسات مع غياب مشروعٍ وطنيٍّ جامعٍ للتنمية والأمن.