المركز الأفريقي للاستشارات African Center for Consultancy

اصدارات دورية

المليشيات والمرتزقة: الوجه الخفي لتهديد الأمن الإفريقي

01/11/2025
المليشيات والمرتزقة: الوجه الخفي لتهديد الأمن الإفريقي

د. محمد تورشين
باحث وكاتب في الشؤون الإفريقية

تعيش بعض الدول الإفريقية التي تعاني من الصراعات المسلحة اليوم على وقع تحولاتٍ أمنيةٍ عميقة، مع تسارعٍ في استخدام المليشيات والمرتزقة كعنصرٍ فاعلٍ في الحروب الداخلية. هذا التحول لا يعكس فقط تغيّرًا في موازين القوى، بل يفتح المجال أمام صياغة نظام الأمن في الدول الإفريقية وفق محدداتٍ جديدةٍ تتجاوز النموذج التقليدي المرتبط بتحقيق الأمن والاستقرار من قبل الجيوش النظامية.
مؤخرًا، تكاد مسألة المليشيات والمرتزقة تصبح ظاهرةً أرهقت الحكومات والجيوش، مما انعكس على قدرة الدول الإفريقية في تحقيق الأمن الإقليمي. ولقد ساهمت هذه القوى غير النظامية في زعزعة أمن واستقرار القارة الإفريقية.
المليشيات والمرتزقة في إفريقيا: النشأة والتطور والأشكال
يمكن تتبع نشأة المليشيات والمرتزقة في إفريقيا إلى حقبة ما قبل الاستقلال، حيث استعانت القوى الاستعمارية الأوروبية بأذرعٍ محليةٍ وأجنبيةٍ للسيطرة على المستعمرات وإخماد الثورات وحركات التحرير الوطني. ومع الاستقلال، ورثت الدول الإفريقية جيوشًا ضعيفةً وهشّة لم تكن قادرة على فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها، فضلًا عن تفاقم بعض الإشكاليات الاجتماعية والسياسية، مما خلق مناخًا ملائمًا لظهور المليشيات.
ومع تصاعد الحرب الباردة في السبعينيات والثمانينيات، استُخدم المرتزقة كأدواتٍ بيد القوى الكبرى. ومن أبرز الأمثلة على ذلك النشاط العسكري لجماعة "بوب دينارد" في كلٍّ من جزر القمر وأنغولا والكونغو الديمقراطية، حيث انخرط المرتزقة الأجانب في المليشيات والفصائل العسكرية.
في التسعينيات، شهدت القارة الإفريقية تحولاتٍ جيوسياسيةٍ كبيرة، حيث أصبحت المليشيات فاعلًا مؤثرًا في المشهد السياسي في كلٍّ من الصومال وسيراليون وليبيريا والكونغو.
علاوة على ذلك، ظهرت الشركات العسكرية الخاصة لتعمل كواجهةٍ قانونيةٍ للمرتزقة، مستغلةً الصراعات الداخلية ومستفيدةً من الموارد الطبيعية كالألماس والذهب.
أنواع المليشيات والمرتزقة في إفريقيا
تنوعت المليشيات والمرتزقة في إفريقيا بحسب الأهداف والانتماءات إلى ثلاثة أنواع رئيسية:
أولًا: المليشيات المحلية
تنشأ هذه المليشيات على أسسٍ إثنية أو عرقية أو دينية وأحيانًا سياسية، وتعمل ضمن مناطق محدودة للدفاع عن مصالح جماعاتها أو للسيطرة على الموارد. ومن أبرز الأمثلة: "قوات الماي ماي" في الكونغو الديمقراطية، و"حرس الحدود (الجنجويد)"، والحركات المسلحة في كلٍّ من دارفور وجبال النوبة في السودان، و"حركة الشباب المجاهدين" في الصومال، وكذلك "بوكو حرام" في حوض بحيرة تشاد، إضافةً إلى "أنتي بلاكا" في جمهورية إفريقيا الوسطى. عادةً ما تمتلك هذه المليشيات بنيةً تنظيميةً شبه عسكرية وقدراتٍ قتالية، لكنها تفتقر إلى الشرعية القانونية.
ثانيًا: المرتزقة الأجانب
هم أفرادٌ أو جماعاتٌ يقدمون خدماتٍ قتاليةً مقابل المال، دون ارتباطٍ بالهوية الوطنية. ساهم المرتزقة في صراعاتٍ متعددةٍ عبر العقود في دولٍ مثل أنغولا والكونغو وليبيا ومالي والسودان. ويرتبط نشاطهم عادةً بالفصائل المحلية التي لها ارتباطاتٌ خارجية، مما يعكس تداخلًا بين القوى الأجنبية والمحلية في مناطق النزاع.
ثالثًا: الشركات الأمنية
تمثل هذه الشركات شكلًا قانونيًا نسبيًا للمرتزقة، حيث تعمل وفق عقودٍ رسميةٍ مع الدول أو المؤسسات، وتقدّم خدماتٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ متخصصة. من أبرز هذه الشركات: "فاغنر"، و"بلاك ووتر"، و"ساند لاين إنترناشونال "(Sandline International)، و"إكزكيوتيف آوتكومز"(Executive Outcomes) ، تعمل هذه الشركات في قطاعاتٍ متعددة تشمل التدريب العسكري، وتوريد الأسلحة، والحماية الأمنية، والاستشارات، وقد ارتبطت بشكلٍ وثيقٍ بالصراعات المعقدة في القارة الإفريقية، مستفيدةً من مواردها الطبيعية والنزاعات القائمة لتعزيز حضورها ونفوذها.
عوامل ودوافع انتشار المليشيات والمرتزقة
تُعَدّ قضية المرتزقة والمليشيات في إفريقيا من المسائل المعقدة التي تتداخل فيها عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، مما يجعل القارة ساحةً خصبةً لانتشار الفاعلين المسلحين من غير الدول.
ويُعزى ذلك أساسًا إلى هشاشة الدول الإفريقية وضعف مؤسساتها الأمنية والسياسية، حيث تعجز العديد من الحكومات عن بسط سيادتها على كامل أراضيها أو تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين، مما يخلق فراغًا أمنيًا تستغله الجماعات المسلحة.
في بعض الحالات، تستعين الحكومات نفسها بالمليشيات أو المرتزقة لضمان بقائها في السلطة.
إضافةً إلى ذلك، يُعتبر العامل الاقتصادي محركًا رئيسيًا لانتشار الظاهرة، إذ يشكّل الفقر المدقع وغياب فرص العمل وضعف التنمية دافعًا للانخراط في صفوف المليشيات أو المرتزقة، حيث يجدون فيها دخلًا أفضل من البدائل الأخرى.
كما تلعب الثروات الطبيعية مثل الذهب والماس والمعادن الثمينة دورًا كبيرًا في تأجيج الصراعات، إذ تسعى المليشيات والمرتزقة للسيطرة عليها أو توظيفها كأداة تفاوض مع القوى المحلية أو الإقليمية.
على المستوى الاجتماعي والثقافي، تظلّ الانقسامات الإثنية والقبلية والعرقية عاملًا أساسيًا في إثارة الصراعات وتجنيد المقاتلين، حيث يُستغل شعور التهميش والإقصاء لبناء ولاءاتٍ مسلّحة. ويُضاف إلى ذلك الإرث الاستعماري الذي خلّف حدودًا مصطنعة وهياكل حكمٍ ضعيفة، مما جعل الانتماءات الإثنية والقبلية والعرقية أقوى من الهوية الوطنية، وبالتالي أكثر عرضةً للتوظيف من قبل المليشيات.
الأثر الأمني والسياسي
تتجلى أولى انعكاسات المليشيات والمرتزقة في البعد الأمني، إذ يؤدي وجود هذه الكيانات إلى تضاعف مستويات العنف المسلح بشكلٍ كبير. فالمليشيات غالبًا تتحرك بدوافع السيطرة على مناطق النفوذ أو الموارد الطبيعية، بينما يضفي المرتزقة، بفضل خبراتهم العسكرية وتسليحهم المتطور، بُعدًا أكثر دمويةً وتعقيدًا على الصراعات، مما يجعلها تتسع وتتحول إلى حروبٍ ممتدةٍ يصعب احتواؤها.
كما أن معضلة المليشيات والمرتزقة تقوّض جوهر الدولة الحديثة المتمثل في احتكار العنف المشروع. فعندما تتعدد الجهات المسلحة وتتنافس على السيطرة، تفقد الدولة قدرتها على بسط سيادتها، ويجد الشعب نفسه أمام مصادر قوةٍ متعددة ومتنوعة ذات تأثيرٍ كبيرٍ على مؤسسات الدولة. لذا أصبحت الحكومات عاجزة عن مواجهة هذه الكيانات، بل لجأت إلى التعايش معها أو حتى الاستعانة بها في حماية بقائها على سدة الحكم، وهو ما يعكس خللًا بنيويًا في منظومة الأمن القومي.
إلى جانب ذلك، فإن انتشار المليشيات والمرتزقة يُغذي شبكات الجريمة المنظمة والعابرة للحدود. فهذه الفصائل لا تقتصر أنشطتها على القتال، بل تمتد إلى قضايا تهريب الذهب والماس والمعادن والسلاح والمخدرات والاتجار بالبشر، وبذلك تمتلك مصادر تمويلٍ ضخمةٍ تعزز استمرار النزاعات.
ولا يمكن إغفال التداعيات الإنسانية لهذه الأوضاع، إذ تُؤدي المواجهات المسلحة إلى نزوحٍ ولجوءٍ جماعيين، يخلقان بيئاتٍ هشّةً قابلةً لإعادة إنتاج العنف، سواء عبر التجنيد القسري أو استغلال ظروف الفقر والحرمان، مما يشكّل أرضيةً خصبةً لتنامي انتشار المليشيات وأنشطتها.
على المستوى الإقليمي، يؤدي وجود المليشيات إلى تقويض أي تعاونٍ مشترك، إذ تتحرك الجماعات المسلحة بسهولةٍ عبر الحدود مستفيدةً من الهشاشة الأمنية، مما يجعل من بعض المناطق مثل الساحل الإفريقي والبحيرات العظمى والقرن الإفريقي مرتعًا مفتوحًا للمليشيات متعددة الولاءات.
وإذا كانت الآثار الأمنية للمليشيات والمرتزقة واضحةً ومؤثرة، فإن الأبعاد السياسية أكثر تعقيدًا وعمقًا، فوجود هذه الجماعات يؤدي إلى إضعاف شرعية الدولة. فالدولة التي لا تستطيع حماية مواطنيها ولا تسيطر على أراضيها تفقد تدريجيًا ثقة الشعب.
وتصبح أزمة الشرعية أكثر خطورةً عندما تنخرط الحكومات نفسها في تحالفاتٍ مع المليشيات أو تستعين بالمرتزقة لضمان استمراريتها، فتحوِّل نفسها من طرفٍ ضامنٍ للأمن إلى طرفٍ في النزاع.
وفي مراحل الانتقال السياسي، غالبًا ما تتحول المليشيات إلى أدوات ضغطٍ تستخدمها قوى سياسية للتأثير في موازين النفوذ لصالحها، بينما يلعب المرتزقة دورًا في دعم أنظمةٍ سلطويةٍ مقابل عقودٍ اقتصاديةٍ أو امتيازاتٍ للتنقيب عن المعادن الاستراتيجية. وبذلك تتحول المليشيات والمرتزقة إلى أداةٍ لإجهاض التحوّل الديمقراطي، مما يؤدي إلى تكريس الاستبداد.
كما أن دخول المرتزقة يفتح الباب واسعًا أمام تدويل الصراعات الداخلية، فوجود شركاتٍ أمنيةٍ خاصة أو قواتٍ مرتزقةٍ مرتبطةٍ بقوى دولية يجعل من النزاعات الإفريقية جزءًا من التنافس الجيوسياسي. ويتضح ذلك في انخراط مجموعة "فاغنر" الروسية في الساحل الإفريقي وإفريقيا الوسطى، حيث ارتبطت هذه التدخلات بصراع النفوذ بين روسيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
وتؤدي هذه الديناميات إلى عسكرة الحياة السياسية، إذ تنجح بعض المليشيات في التحول إلى فاعلين سياسيين شرعيين عبر اتفاقيات السلام أو فرض الأمر الواقع، كما هو حال قوات الدعم السريع في السودان، مما يؤدي إلى إدماج منطق السلاح في السياسة.
إلى ذلك، عجزت المؤسسات الإقليمية مثل الاتحاد الإفريقي عن التعامل بفعاليةٍ مع مسألة المليشيات والمرتزقة، مما جعلها من أبرز العوامل المهددة للاستقرار والأمن في القارة الإفريقية.
الكونغو الديمقراطية… ساحة مفتوحة لحروب المليشيات والمرتزقة
تُعدّ جمهورية الكونغو الديمقراطية من أكثر النماذج تعبيرًا عن مهددات الاستقرار الناجمة عن المليشيات والمرتزقة، لما تتضمنه من تداخلاتٍ إثنيةٍ واقتصاديةٍ وإقليميةٍ تجعلها مثالًا مركبًا ومعقدًا. فقد عانت البلاد من الهشاشة الأمنية وانعدام الاستقرار، ولم تعرف سلامًا مستدامًا منذ استقلالها عام 1960.
تحوّل إقليما شمال وجنوب كيفو إلى ساحةٍ مفتوحةٍ لصراعاتٍ محليةٍ وإقليميةٍ تتداخل فيها المليشيات الإثنية والفصائل المتمردة والمرتزقة، مدفوعةً بمصالح اقتصاديةٍ وسياسيةٍ معقدة. وتُعدّ وفرة المعادن الثمينة كالذهب والألماس والكولتان من أبرز مصادر تمويل الجماعات المسلحة، التي تجاوز عددها أكثر من 100 فصيل، أبرزها حركة "23 مارس" المدعومة من رواندا، والقوات الديمقراطية وغيرها.
أدى تصاعد نفوذ المليشيات وتدخل المرتزقة إلى تدهور الوضع الإنساني، حيث تسببت الهجمات المتكررة في مقتل آلاف المدنيين وتشريد الملايين داخل البلاد وخارجها، مع انتشارٍ واسعٍ للانتهاكات كالإغتصاب والاختطاف ونهب الممتلكات. كما أضعف هذا الواقع قدرة الدولة على بسط سيطرتها وعمّق فقدان الثقة بين المواطنين والحكومة، في ظل تدخلاتٍ إقليميةٍ متبادلة تزيد المشهد تعقيدًا وتحول الصراع إلى أزمةٍ عابرةٍ للحدود.
كما أدى استمرار الصراع إلى تعطيل التنمية وتدمير البنية التحتية واتساع نطاق الفقر، مما جعل الشباب عرضةً للتجنيد في صفوف الجماعات المسلحة. إن أزمة المليشيات والمرتزقة في الكونغو الديمقراطية لا يمكن حلها بالوسائل العسكرية وحدها، بل تتطلب مقاربةً شاملةً تعالج جذور الأزمة، وتحقق العدالة الانتقالية، وتعيد إعمار ما دمرته الحرب، وتعيد بناء مؤسسات الدولة.

الخاتمة
يمكن القول إن المليشيات والمرتزقة يمثلون أحد أخطر مهددات الاستقرار في القارة الإفريقية، إذ لا تقتصر آثارهم على الجانب الأمني فحسب، بل تمتد إلى تقويض أسس الدولة وإضعاف مؤسساتها.
إن انتشار المليشيات والمرتزقة وتعدد الولاءات لهما يجعل العديد من الدول الإفريقية — مثل الكونغو والسودان ومنطقة الساحل — ساحاتٍ مفتوحةً لصراعاتٍ معقدةٍ تُدار بالوكالة. لقد كشفت التجارب أن ضعف التنمية وغياب الحكم الرشيد وتسييس الانتماءات الإثنية والعرقية كلها عوامل تُغذي ظاهرة المليشيات وتُوفر بيئةً خصبةً للمرتزقة.
لذلك فإن معالجة هذه المهددات تتطلب مقاربةً شاملةً تتجاوز الحلول العسكرية، بالتركيز على بناء مؤسسات دولةٍ قوية، وتعزيز العدالة، وضمان توزيعٍ عادلٍ للموارد والثروات، وإصلاح الحياة السياسية عبر ترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة.