المركز الأفريقي للاستشارات African Center for Consultancy

اصدارات دورية

الاقتصاد السوداني: من شفا الإنهيار إلى مسارات التعافي وإعادة الإعمار

01/11/2025
الاقتصاد السوداني: من شفا الإنهيار إلى مسارات التعافي وإعادة الإعمار

أحمد بن عمر – باحث ومحلل اقتصادي

بعد عامين ونصف من حربٍ مدمّرة أنهكت الاقتصاد ووضعته على حافة الانهيار، يقف السودان اليوم أمام مفترق طرقٍ مصيريٍّ، إذ بات الصراع يهدد أسس الدولة وبقاءها. تسبّب النزاع في نزوح أكثر من أربعة عشر مليون شخص، وانهيار قطاعاتٍ حيوية مثل الصحة والتعليم، فيما يواجه أكثر من نصف السكان خطر انعدام الأمن الغذائي.
في ظلّ هذه الكارثة الاقتصادية، تحوّل السودان فعليًا إلى اقتصاد حرب؛ توقّفت معظم القطاعات الإنتاجية، وباتت موارد الدولة – التي يُفترض أن تُوجَّه للتنمية – تُستنزف في تغذية آلة الصراع، ما فاقم الانهيار الاقتصادي والمعاناة الاجتماعية. ومع غياب أيّ أفقٍ لنهاية القتال، يستمرّ النزيف الاقتصادي بلا هوادة، إذ يضيف كل شهرٍ من الحرب مزيدًا من الدمار ويرفع التكلفة المستقبلية لإعادة الإعمار.
أمام هذا الواقع القاتم، يبرز سؤالٌ وجودي: هل يستطيع السودان، في ظل اقتصادٍ منهكٍ وحربٍ ممتدة، الحفاظ على مقوّمات الدولة وإيجاد مسارٍ نحو التعافي والاستقرار؟ أم أنّ عجلة الصراع ستواصل تقويض الأسس الاقتصادية والمؤسسية ودفع البلاد نحو مصير الدولة الفاشلة؟
1-أداء الاقتصاد خلال الحرب: انكماش قياسي ونزوح غير مسبوق
انكمش الناتج المحلي الإجمالي للسودان بأكثر من 29% خلال عام 2023، مع توقّع استمرار الانكماش بمعدلٍ مزدوج الرقم في عام 2024. وتُظهر التقديرات أنّه إذا طال أمد النزاع حتى نهاية 2025، فقد يتقلص حجم الاقتصاد بأكثر من 40% مقارنةً بمستواه قبل الحرب، أي إن السودان سينتج أقل من 60% مما كان ينتجه سابقًا.
قدّر وزير المالية في أواخر 2023 الخسائر الاقتصادية المباشرة بأكثر من 26 مليار دولار، وهو ما يتجاوز نصف حجم الاقتصاد قبل الحرب. تعني هذه الأرقام تدمير القدرات الإنتاجية للبلاد وتلاشي مكاسب سنواتٍ من النمو الاقتصادي.
لم يسلم أيّ قطاعٍ رئيسي من آثار الحرب؛ فقد انهار الإنتاج الصناعي وفقد أكثر من نصف قيمته بسبب توقّف المصانع – خصوصًا في الخرطوم – وتعرّضت مصفاة الجيلي لأضرارٍ جسيمة بلغت قيمتها نحو ثلاث مليارات دولار. كما تراجع إنتاج النفط إلى أقل من النصف، من نحو 60 ألف برميل يوميًا قبل الحرب إلى 24 ألفًا فقط، فيما توقّفت عمليات التكرير تمامًا.
أما القطاع الزراعي – وهو عماد الاقتصاد الوطني ومصدر رزقٍ لنحو 40% من القوى العاملة – فقد تلقّى ضربةً قاسية بسبب نزوح المزارعين وتعطّل المواسم ونقص الوقود والبذور. وتشير تقديرات منظمة الأغذية والزراعة (FAO) إلى أنّ إنتاج الحبوب في موسم 2023–2024 انخفض بنحو 46% مقارنةً بالعام السابق. كما تعطّلت مشاريع زراعية كبرى مثل مشروع الجزيرة نتيجة القتال واعتداءات المليشيات، وتحولت مناطق خصيبة كانت توصف بـ«سلة غذاء السودان» إلى ساحاتٍ عسكريةٍ مدمّرة.
ارتفعت معدلات الفقر والتضخم بصورةٍ هائلة؛ إذ تضاعفت نسبة السكان تحت خط الفقر من نحو 33% قبل الحرب إلى أكثر من 60% في عام 2024، بينما خرج التضخم عن السيطرة، مسجلًا معدلًا سنويًا يقارب 170% مقارنةً بـ 66% في 2023.
كما تهاوى سعر صرف الجنيه السوداني من نحو 600 جنيه للدولار قبل الحرب إلى ما يقارب 3500 جنيه في أواخر الربع الثالث من عام 2025. وبالتوازي، انهارت الإيرادات الحكومية من 10% من الناتج المحلي في 2022 إلى أقل من 5% في 2024، لتصبح خزينة الدولة شبه عاجزةٍ عن تمويل الخدمات الأساسية أو دفع رواتب الموظفين.
انكماش الناتج المحلي الإجمالي للسودان بسبب الحرب (القيم بمليار دولار أمريكي). يُظهر الرسم انخفاض الناتج من حوالي 56 مليار دولار عام 2022 إلى قرابة 32 مليار دولار متوقع في 2025 نتيجة الصراع المستمر.
2- صمود المؤسسات الرسمية في وجه العاصفة
على الرغم من فداحة الصدمة الاقتصادية والفوضى الأمنية، حاولت المؤسسات الاقتصادية الرسمية الحفاظ على قدرٍ من الاستمرارية والصمود في وجه العاصفة. فبعد أن تحولت العاصمة الخرطوم إلى ساحة حربٍ مفتوحة، نُقل بنك السودان المركزي ووزارة المالية إلى مواقع أكثر أمنًا في بورتسودان شرقًا – رغم أن البنك المركزي أعاد فتح نافذةٍ له في أم درمان لاحقًا – وواصلا أداء بعض المهام الحيوية من هناك.
تعرّض القطاع المصرفي لضربةٍ قاسية، إذ أُغلِق نحو 70% من فروع المصارف في مناطق القتال، وتعرّض الكثير منها للنهب، غير أن بعض الفروع واصل تقديم الحد الأدنى من الخدمات في مناطق سيطرة الحكومة، مثل صرف المرتبات والتحويلات المالية للمواطنين.
اعتمد البنك المركزي خلال الحرب سلسلة إجراءات نقدية استثنائية في محاولةٍ لاستعادة السيطرة المالية. ففي أواخر عام 2024، طُرحت عملة جديدة لاستبدال الجنيهات القديمة بهدف مكافحة التزوير وجمع السيولة النقدية الضخمة المتداولة خارج النظام المصرفي. ورغم معارضة قوات الدعم السريع لهذه الخطوة وتهديدها بمنع تداول العملة في مناطق سيطرتها، مضى البنك المركزي قدمًا في تنفيذ العملية داخل الولايات السبع الآمنة، فيما بقيت المناطق الخاضعة للمليشيا خارجها.
عكست هذه الخطوة تصميم السلطات الرسمية على الحفاظ على أدوات الإدارة الاقتصادية الأساسية رغم الانقسام السياسي والعسكري. كما أظهرت كفاءة كوادر البنك المركزي ووزارة المالية وابتكارهم حلولًا إسعافية لتفادي الفوضى المالية الشاملة. ومع ذلك، ظل تأثير هذه المؤسسات محدودًا بفعل ضيق النطاق الجغرافي للسلطة وضعف الموارد، ما جعل أدوات السياسة النقدية والمالية أقل فاعلية.
لقد أبرزت الحرب بوضوح أن حتى أقوى المؤسسات الاقتصادية تصبح عاجزة دون استقرارٍ سياسي وأمني. لذا فإن صمودها الجزئي – رغم أهميته الرمزية – يظل مجرد بارقة أمل لا تُغني عن الحاجة الملحّة لوقف الحرب واستعادة دولةٍ موحّدة تمكّن مؤسساتها من أداء دورها الكامل في إعادة بناء الاقتصاد الوطني.
3- اقتصاد الحرب للمليشيا: تهريب موارد وفرض إتاوات
في المقابل، أنشأت قوات الدعم السريع اقتصاد حربٍ موازٍ مكّنها من تمويل عملياتها بعيدًا عن مؤسسات الدولة الرسمية. استغلّت المليشيا موارد السودان وثغرات حدوده عبر شبكات تهريبٍ منظّمة شملت الذهب والسلع والوقود، وفرضت إتاواتٍ على طرق التجارة، في مشهدٍ يعيد إلى الأذهان تجارب دولٍ مزّقتها الحروب مثل ليبيا واليمن، حيث نشأت منظومات تمويلٍ موازية تغذّي أطراف النزاع.
شكّل الذهب المصدر الأبرز لتمويل المليشيا؛ إذ يدير قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) وأقاربه مناجم ذهبٍ واسعة في دارفور وجبل عامر وغيرها، وقد كثّفت المليشيا منذ اندلاع الحرب بيع الذهب وتهريبه للحصول على النقد الأجنبي وشراء السلاح. وتشير تحقيقاتٌ أممية إلى أنّ الإمارات أصبحت منفذًا رئيسيًا لذهب المليشيا المهرَّب، ما ساهم في تغذية اقتصاد الحرب السوداني.
وإلى جانب الذهب، اعتمدت المليشيا على تهريب الوقود والسلع وابتزاز التجار عبر ما يُسمّى «ضرائب الحرب». إذ سيطرت قوات الدعم السريع على مساحاتٍ شاسعة من دارفور والمنافذ الحدودية مع تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى، وأقامت شبكاتٍ لإدخال السلاح والوقود من دول الجوار بعيدًا عن أعين الدولة. ويدفع التجار في تلك المناطق إتاواتٍ باهظة عند الحواجز العسكرية مقابل السماح بمرور البضائع، ما خلق اقتصاد ظلٍّ تحكمه فوهة البندقية بدلًا من القانون.
كما لجأت قوات الدعم السريع إلى استخدام الحصار والتجويع كتكتيكٍ عسكري. ففي مايو 2024 فرضت حصارًا خانقًا على مدينة الفاشر – عاصمة شمال دارفور – استمر أكثر من عام، قاطعةً الإمدادات الغذائية والطبية عنها. أدّى ذلك إلى نقصٍ حاد في الغذاء والدواء وارتفاعٍ جنوني في الأسعار، ووُثّقت حالات وفاةٍ بالعشرات بسبب الجوع خلال الأسابيع الأولى من الحصار. هذا النهج الوحشي في استهداف المدنيين بالتجويع يذكّر بأسوأ فصول حروب اليمن وسوريا، حيث استُخدم الحصار سلاحًا لإخضاع المدن المقاومة.
وقد وصفت الأمم المتحدة الأزمة السودانية الحالية بأنها من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم، محذّرةً من أن نحو 30 مليون سوداني بحاجةٍ إلى مساعداتٍ عاجلة.
سعت المليشيا أيضًا إلى تقويض سيطرة الحكومة على النظام النقدي. فقبيل طرح العملة الجديدة في عام 2024، أغرقت السوق بأوراقٍ نقديةٍ مزيفة لتمويل أنشطتها. وعندما أعلن البنك المركزي إصدار الجنيه الجديد، رفضت الاعتراف به ومنعت تداوله في مناطقها، محاولةً إنشاء نظامٍ نقدي موازٍ يشبه ما فعله الحوثيون في صنعاء.
هذا الوضع خلق خطرًا حقيقيًا لانقسامٍ ماليٍّ داخل الدولة بوجود سياستين نقديتين وعملتين متوازيتين، وهو سيناريو شهدته اليمن وتسبب في انهيارٍ اقتصاديٍ مضاعف. ورغم أن المليشيا تفتقر إلى الخبرة التقنية والاعتراف الدولي اللازم لإصدار عملةٍ رسمية، فإن مجرد بروز هذا الانقسام المالي يُضعف الثقة بالاقتصاد الوطني ويُعقّد أي عملية توحيدٍ مستقبلية للنظام المصرفي.
وفي تطوّرٍ لاحق، أعلنت قوات الدعم السريع في يوليو 2025 تشكيل ما سمّته «حكومة السلام والوحدة» كسلطةٍ موازية في دارفور وجنوب كردفان. ورغم افتقارها لأي شرعيةٍ قانونية أو سياسية، فإن الخطوة تمثل محاولةً لترسيخ إدارةٍ مستقلة بمؤسساتٍ موازية، وصولًا إلى الحديث عن إنشاء بنكٍ مركزيٍّ إقليميٍّ في دارفور.
ورغم أن هذا المشروع غير قابلٍ للنجاح الواقعي، فإنه يكشف نية المليشيا المضيّ في تقسيم مؤسسات الدولة، وتثبيت الأمر الواقع الذي تفرضه بقوة السلاح.
بشكلٍ عام، يضمن اقتصاد الحرب الذي تبنيه قوات الدعم السريع مصادرَ تمويلٍ قصيرة الأمد، لكنه في الوقت نفسه يُفاقم الانهيار الوطني، ويُطيل أمد الحرب ومعاناة المدنيين، ويكرّس انقسامًا هيكليًا في السودان قد يستمر حتى بعد توقف القتال.
4- "إعادة التشغيل" مؤقتًا مقابل إعادة الإعمار الحقيقي
مع دخول الحرب عامها الثالث، برزت في بعض المناطق الآمنة نسبيًا مبادراتٌ محلية لإعادة تشغيل الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، في محاولةٍ لتخفيف الكارثة الإنسانية دون انتظار نهاية الحرب. فعلى سبيل المثال، بعد استعادة الجيش أجزاءً من الخرطوم مطلع عام 2025، شكّلت الحكومة لجنةً عليا لإعادة تهيئة العاصمة.
بدأت فرق الصيانة بإصلاح عاجلٍ لشبكات الكهرباء والمياه وتشغيلها لساعاتٍ محدودة في بعض الأحياء لإعادة الخدمات الأساسية وتشجيع عودة السكان تدريجيًا. واستُخدمت مولدات كهرباء متنقّلة وصهاريج مياه كحلولٍ إسعافية لإبقاء المستشفيات الميدانية والمرافق الحيوية عاملةً بالحد الأدنى. هذه الجهود أنعشت المرافق جزئيًا، لكنها تظلّ حلولًا مؤقتة تعتمد على الوقود والمضخات الشمسية بدلًا من إعادة بناءٍ مستدام للبنية التحتية.
على صعيدٍ آخر، فقد السودان نحو 37% من قدرته الكهربائية بسبب هجمات الدعم السريع على المحطات وخطوط النقل. ولتعويض النقص في التوليد، استعانت السلطات بالربط الكهربائي مع مصر، حيث رفعت القاهرة في مايو 2025 إمدادات الكهرباء بشكلٍ طارئ لإنارة مناطق في شمال السودان، خاصةً لدعم المزارعين في موسم الزراعة الصيفي.

كذلك أعادت الحكومة افتتاح عددٍ محدود من فروع المصارف في المدن التي لم يلحقها دمار كبير – مثل شرق السودان والجزيرة والخرطوم – اعتبارًا من أواخر 2024، لتوفير السيولة والخدمات الأساسية وإنعاش الحركة التجارية المحلية. كما جرى تفعيل وسائل الدفع الإلكتروني لتسهيل المعاملات دون الحاجة إلى السفر إلى العاصمة.كذلك أعادت الحكومة افتتاح عددٍ محدود من فروع المصارف في المدن التي لم يلحقها دمار كبير – مثل شرق السودان والجزيرة والخرطوم – اعتبارًا من أواخر 2024، لتوفير السيولة والخدمات الأساسية وإنعاش الحركة التجارية المحلية. كما جرى تفعيل وسائل الدفع الإلكتروني لتسهيل المعاملات دون الحاجة إلى السفر إلى العاصمة.وبموازاة ذلك، حافظت الحكومة على تشغيل الموانئ البحرية في بورتسودان وسواكن لضمان استمرار تدفق الإمدادات الإنسانية والوقود، تفاديًا لعزل البلاد تجاريًا وإنسانيًا.ومع أهمية هذه التحركات، فإنها لا ترقى إلى مستوى إعادة الإعمار الحقيقي؛ إذ تعني عملية الإعمار الشاملة بناء ما دمّرته الحرب بصورةٍ مستدامة واستعادة قدرات الاقتصاد على المدى الطويل، وهو ما يتطلّب شروطًا غير متوفّرة حاليًا، في مقدمتها وقفٌ دائم لإطلاق النار ونهاية رسمية للنزاع.فلا يمكن إطلاق مشاريع بنى تحتية كبرى في ظلّ القصف وانعدام الأمن، كما لا يمكن تنفيذ خططٍ وطنية من دون حكومةٍ مركزية موحّدة وذات شرعية قادرة على التخطيط والتنسيق وجذب التمويل الدولي.تُقدَّر فاتورة إعادة الإعمار في السودان بما يتجاوز 100 مليار دولار من الأضرار المباشرة، تشمل الطرق والجسور وشبكات الكهرباء والمياه والاتصالات، فضلًا عن مئات المستشفيات والمدارس والمرافق الخدمية التي دُمّرت كليًا أو جزئيًا. وقدّر وزير الصحة خسائر القطاع الصحي وحده بنحو 11 مليار دولار حتى منتصف عام 2025. وهذه الأرقام مرشّحةٌ للارتفاع مع استمرار القتال.بناءً على ذلك، تبقى جهود "إعادة التشغيل" الحالية مجرّد إسعافاتٍ أولية تبقي المدن المنكوبة على قيد الحياة مؤقتًا، لكنها لا تمثّل حلًا مستدامًا. فلا إعمار حقيقي دون إحلال السلام وقيام حكومةٍ فاعلة قادرةٍ على جذب التمويل وإطلاق مشاريع إعادة بناءٍ كبرى. وأي مكاسب محدودة تحققت ستظل هشّة، وقد تتلاشى فور تجدّد القتال.5- برامج الإصلاح بعد الحروب: دروس دولية وأولويات سودانيةطوّرت المؤسسات الدولية عبر العقود الماضية برامج متخصصة لمساعدة الدول الخارجة من النزاعات على استعادة استقرارها الاقتصادي تدريجيًا، ومن أبرزها برنامج المراقبة التابع لصندوق النقد الدولي (Staff-Monitored Program – SMP)، إضافةً إلى مبادرات البنك الدولي والأمم المتحدة للتعافي وإعادة الإعمار.وبالنسبة للسودان – الذي يواجه اقتصادًا منهارًا، ودعمًا خارجيًا محدودًا، ووضعًا سياسيًا هشًّا – فإن الاستفادة من هذه التجارب ضرورة لا ترف.يُعدّ برنامج الـ SMP ترتيبًا غير تمويلي تلتزم فيه الحكومة بتنفيذ حزمة إصلاحاتٍ هيكلية تحت إشراف خبراء صندوق النقد، دون الحصول على قروضٍ أثناء مدته، بهدف بناء سجلٍّ إصلاحي موثوق يمهّد لنيل دعمٍ مالي لاحق، سواء عبر برامج الصندوق التمويلية أو ضمن مبادرة إعفاء الدول الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC).للسودان تجربة ناجحة نسبيًا مع هذا البرنامج بعد ثورة ديسمبر 2019؛ إذ شرعت الحكومة الانتقالية في 2020–2021 بتنفيذ سياساتٍ صعبة مثل رفع دعم الوقود وتوحيد سعر الصرف. وقد نجح السودان آنذاك في بلوغ "نقطة القرار" لمبادرة HIPC وحصل على إعفاءٍ مبدئي لبعض ديونه في يونيو 2021، لكن انقلاب أكتوبر 2021 ثم الحرب أوقفا تلك الجهود.مع ذلك، تبقى منهجية الـ SMP صالحة كخارطة طريق لأي حكومة انتقالية ما بعد الحرب، إذ لا يمكن استعادة الثقة الدولية أو استقطاب التمويل دون برنامج إصلاحي منضبط يخضع لرقابة مؤسسية دولية.من جانبٍ آخر، لدى البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي والأمم المتحدة خططٌ تفصيلية للتعافي الاقتصادي بعد النزاع. ففي يونيو 2025، أصدر البنك الدولي تقريرًا بعنوان:"التبعات الاقتصادية والاجتماعية للصراع: رسم مسارٍ للتعافي"رسم فيه ملامح خطة إنقاذٍ للاقتصاد السوداني، مؤكدًا أن انتشال البلاد يتطلب إصلاحاتٍ هيكلية عميقة فور توقف الحرب.قدّم التقرير توصياتٍ أساسية من أبرزها:• استئناف اندماج السودان في مبادرة إعفاء الديون (HIPC) فور إحلال السلام، لاستكمال المسار الذي توقّف منذ 2021.• تجنّب السياسات الشعبوية مثل العودة إلى دعم الوقود والخبز والكهرباء على نطاقٍ شامل، لما تسببه من إنهاكٍ للموازنة وإعادة اختلالات الاقتصاد.• الإبقاء على سعر صرفٍ موحّد ومستقرّ كشرطٍ أساسي لاستقرار الاقتصاد الكلي.• إعادة هيكلة الإنفاق الحكومي بتحويل الموارد من الشركات والمشروعات العسكرية إلى القطاعات الإنتاجية والخدمية مثل الصحة والتعليم والزراعة.أشار التقرير أيضًا إلى أن الجيش السوداني يهيمن منذ عقود على شركات ضخمة تستهلك موارد الدولة دون شفافية أو مساهمةٍ حقيقية في الخزينة، وأنّ هذه الهيمنة تضاعفت مع دخول الدعم السريع في الاقتصاد. لذا، فإن تحويل هذه الموارد نحو القطاعات المدنية هو شرطٌ جوهري لإعادة بناء رأس المال البشري وتحسين المعيشة.في ظل محدودية الدعم الخارجي، يجب على السودان ترتيب أولوياته بواقعية:لن تتدفق مليارات الدولارات فجأةً بعد الحرب لإعادة البناء، لذلك يجب على السودان أن يُحدّد أولوياته الداخلية بدقّة وواقعية، مركّزًا على الخطوات العاجلة الأقل كلفةً والأسرع أثرًا. ويمكن تلخيصها فيما يلي:أولًا: تحقيق الاستقرار النقدي وكبح التضخمينبغي إعادة الثقة في العملة الوطنية عبر سياسة نقدية ومالية متماسكة، تشمل سحب الفائض من الجنيهات القديمة المتداولة خارج النظام المصرفي، ووقف تمويل عجز الموازنة بطباعة النقود. كما يجب توحيد سعر الصرف رسميًا وإلغاء السوق الموازية للدولار، وربط أي دعم خارجي باستقرار سعر العملة. ويساعد تفعيل مزادات العملة في تنظيم تدفق النقد الأجنبي وتمويل التجارة الخارجية بشفافية.ثانيًا: إنقاذ الموسم الزراعي القادم بصورة عاجلةيمكن للزراعة أن تكون قاطرة التعافي الاقتصادي إذا أُعيد تنشيطها سريعًا، نظرًا لاعتماد غالبية السكان عليها. ويتطلب ذلك توفير المدخلات الزراعية الأساسية (وقود، أسمدة، بذور محسّنة) للمزارعين في المناطق الآمنة والمشاريع الكبرى، بالتعاون مع المنظمات الدولية لتوزيعها وضمان وصولها في الوقت المناسب. نجاح الموسم الزراعي سيحسّن الأمن الغذائي فورًا عبر زيادة المعروض وخفض الأسعار، ويخلق فرص عملٍ في الريف.ثالثًا: استعادة الخدمات الأساسية تدريجيًا في المناطق المستقرة.يتعيّن الإسراع في إصلاح وتشغيل شبكات المياه والكهرباء في المدن التي توقف فيها القتال، ولو عبر حلولٍ مؤقتة. فتوفير الخدمات الأساسية يحدّ من المخاطر الصحية (مثل تفشّي الأوبئة بسبب انهيار شبكات الصرف والمياه)، ويُشعر المواطنين ببدء عودة الحياة. كما يجب إعادة فتح وتأمين البنوك تدريجيًا لضخّ السيولة وإنعاش الحركة التجارية، وتخفيف الأعباء على الأنشطة الاقتصادية المحلية لتحفيز دوران رأس المال. هذه الخطوات السريعة خلال الأشهر الأولى لوقف الحرب سترسل إشارة إيجابية تشجع النازحين على العودة وتعيد الحيوية للاقتصاد المحلي.رابعًا: تعزيز الشفافية ومكافحة الفساديُعدّ الفساد أحد أكبر معوّقات التنمية في السودان. لذلك، فإن أيّ أموالٍ مخصّصة للإعمار أو المساعدات الدولية ستضيع إن لم تُفعّل آليات رقابةٍ صارمة ومستقلة. يجب إنشاء مفوضية وطنية لمكافحة الفساد، واستكمال قوانين إقرارات الذمة المالية للمسؤولين، والانضمام إلى المبادرات الدولية للشفافية في قطاع التعدين والموارد. كما ينبغي نشر جميع عقود الإعمار والاستثمار للعلن لضمان الرقابة المجتمعية ومنع تسرب الأموال إلى شبكات النفوذ والفساد. إنّ ترسيخ الحوكمة الرشيدة منذ البداية سيزيد ثقة المواطنين والمانحين في آنٍ واحد.خامسًا: تحييد الاقتصاد عن هيمنة العسكرلا يمكن استعادة التوازن الاقتصادي دون إخراج المؤسسة العسكرية من الأنشطة التجارية. يجب دمج شركات الجيش ضمن منظومة الدولة أو خصخصتها تدريجيًا بشفافية، مقابل تحسين أوضاع أفراد المؤسسة العسكرية وتحديث قدراتها الدفاعية، بما يضمن تعويض الانسحاب الاقتصادي بالاستقرار المؤسسي. كذلك يجب إنهاء اقتصاديات الظل التي نشأت أثناء الحرب وفرض سيادة القانون على الموارد والمعابر لمنع التهريب وإعادة إدماج الأنشطة غير الرسمية ضمن الاقتصاد الوطني.سادسًا: الشراكة مع القطاع الخاص والمانحين في الإعمارينبغي تحفيز القطاع الخاص المحلي ليكون شريكًا أساسيًا في إعادة الإعمار عبر حوافز استثمارية وضريبية واضحة. مثلًا، يمكن إسناد مشاريع بناء المدارس والمستشفيات لشركات سودانية مقابل إعفاءاتٍ ضريبية، ما يخلق وظائف ويدعم رأس المال الوطني.أما خارجيًا، فيُستحسن الدعوة إلى مؤتمرٍ دولي للمانحين فور إحلال السلام لإنشاء صندوقٍ دولي لإعمار السودان بإشراف جهةٍ موثوقة. ورغم أن حجم الدعم المتوقع سيكون أقل من الاحتياجات، فإن وجود التزامٍ دولي سيبعث برسالة ثقة بأن السودان ليس معزولًا. كما يمكن اعتماد آلية مقايضة الديون بالاستثمار، بحيث تُعفى أجزاء من الديون مقابل تمويل مشاريع إنتاجية داخل البلاد، ما يخفّف العبء المالي ويُوجّه الموارد نحو التنمية.آفاق المستقبلتؤكد تجارب دولٍ مثل رواندا وسيراليون وأنغولا أن التعافي بعد الحروب ممكنٌ متى ما توفرت الإرادة السياسية والإدارة الاقتصادية السليمة. ويمتلك السودان بالفعل مقوماتٍ حقيقية للنهوض:موارد طبيعية وزراعية ضخمة، وطاقات بشرية شابة، وموقعٌ استراتيجيٌّ يربط بين إفريقيا والشرق الأوسط.لكن ترجمة هذه المقومات إلى واقعٍ مزدهرٍ تتطلب إصلاحاتٍ هيكلية تدريجية وشاقّة. وقد تكون بعض الإجراءات مؤلمة على المدى القصير – مثل خفض الإنفاق العسكري أو تحرير الأسعار – لكنها ضرورية لبناء اقتصادٍ مستقر. الأهم هو ترتيب الأولويات بواقعية، والالتزام بخارطة إصلاحٍ واضحة تحت إشرافٍ دولي لضمان الشفافية والاستمرارية.ومع أن الدعم المالي الخارجي سيكون مشروطًا ومحدودًا، إلا أن السودان يستطيع استثمار موارده الذاتية بشكلٍ أفضل إذا أوقف نزيف التهريب والفساد، وقطع الارتباط بين المؤسسة العسكرية والاقتصاد، بحيث لا تبتلع أي مساعداتٍ أو مواردٍ مستقبلية.في النهاية، يظل مستقبل الاقتصاد السوداني مرهونًا بكيفية حسم الصراع وتسويته.فإن تحقق السلام واستعادت الدولة وحدتها، يمكن رسم مسارٍ تدريجي للنهوض الاقتصادي يرتكز على إعادة تشغيل الإنتاج المحلي – وفي مقدمته الزراعة – مدعومًا بإصلاحاتٍ هيكلية وشراكةٍ مع المجتمع الدولي.ورغم قتامة الواقع الراهن، فإن السودان يملك فرصةً حقيقيةً للانتقال من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد التعافي، إذا ما توافرت الإرادة لتجفيف منابع الفساد، وإنهاء تغوّل العسكر في الاقتصاد، واستعادة الدولة لسيادتها على مواردها.وأهم توصيةٍ يخلص إليها هذا التقرير هي البدء الفوري في التحضير الفني لمرحلة ما بعد الحرب حتى قبل توقف القتال، عبر جمع البيانات، ووضع الخطط التفصيلية للإصلاح وإعادة الإعمار. فبالتخطيط الاستباقي والعمل المتواصل، يمكن للسودان أن يتجاوز محنته التاريخية، ويستعيد عافيته الاقتصادية تدريجيًا، كما فعلت أممٌ كثيرة نهضت من رماد الحرب وبنت مستقبلًا أكثر استدامةً وعدالةً.آفاق المستقبليبقى مستقبل الاقتصاد السوداني مرهونًا بحسم الصراع وكيفية تسويته. فإنّ إنهاء الحرب والتوصّل إلى سلامٍ شامل هو الشرط الأول لوقف النزيف الاقتصادي؛ ومن دونه ستظل خطط الإنعاش مجرد آمالٍ نظرية. أمّا إذا حلّ السلام واستعادت الدولة وحدتها، فيمكن رسم مسارٍ تدريجي للنهوض الاقتصادي يرتكز على إعادة تشغيل الإنتاج المحلي، وفي مقدمته الزراعة، مدعومًا بإصلاحاتٍ هيكلية وشراكةٍ مع المجتمع الدولي.وأهم توصيةٍ يخلص إليها هذا التقرير هي البدء فورًا — حتى قبل أن يصمت السلاح — في التحضير الفني لمرحلة ما بعد الحرب. يجب جمع البيانات ووضع الخطط التفصيلية للإصلاح والإعمار منذ الآن، لضمان انتقالٍ سريعٍ من الإغاثة إلى التنمية حالما تتاح فرصة السلام. بهذا التخطيط الاستباقي والعمل الدؤوب، يمكن للسودان أن يتجاوز محنته التاريخية ويستعيد عافية اقتصاده تدريجيًا، كما نجحت دولٌ أخرى عانت ويلات الحروب في النهوض من جديد وبناء اقتصاداتٍ أقوى وأكثر استدامة.