المركز الأفريقي للاستشارات African Center for Consultancy

اصدارات دورية

إثيوبيا: اتفاقية بريتوريا في عامها الثالث

01/11/2025
إثيوبيا: اتفاقية بريتوريا في عامها الثالث

بقلم السفير عبد المحمود عبد الحليم

كانت مؤشرات التوتر بين المركز وإقليم التقراي واضحة منذ تراجع نفوذ الإقليم في مؤسسات الحكم عقب رحيل ملس زيناوي عام 2012، حيث بدأت الخلافات تظهر تدريجيًا إلى العلن خلال فترة خلفه هايلي مريام ديسالين، رئيس تحالف شعب جنوب إثيوبيا. وشهدت تلك الفترة احتجاجات الأورومو – الذين يشكلون قرابة 40 بالمئة من سكان البلاد – اعتراضًا على منح مستثمرين أراضيَ يعتقدون بأحقيتهم فيها جنوب أديس أبابا.
أدت تلك التطورات إلى استقالة ديسالين، ليبرز اسم أبي أحمد، العقيد السابق في استخبارات الجيش الإثيوبي، بعد أن اختارته جبهة تحرير الأورومو ممثلًا لها، ونال لاحقًا ثقة المجلس المركزي لتحالف الشعوب الثورية الإثيوبية في الثاني من أبريل 2018، متفوقًا على مرشح التقراي شيفيرو شيغوت، بعد أن دعمه تحالف الأمهرة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من الصراع بين المركز وجبهة التقراي.
وعلى الرغم من إعلان أبي أحمد عام 2018 عامًا للمصالحة الوطنية، وإطلاقه سراح عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين الذين وُصفوا بأنهم ضحايا لتسلّط حكم التقراي، وإلغاء حالة الطوارئ، ورفع صفة “الإرهاب” عن بعض الجبهات السياسية، إلا أنه وجّه ضربةً قاصمةً لمصالح التقراي بإجراء تغييرات جوهرية في موقعي رئيس هيئة الأركان ومدير المخابرات، وهما منصبان ظلّا حكرًا على أبناء التقراي منذ تسلُّم التحالف مقاليد الحكم عام 1991.
وكان من الصعب على التقراي، بحكم تاريخ توتر علاقتهم بالجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، تقبّل مصالحة أبي أحمد مع أسمرة، وتنازله عن بلدة بادمي تطبيقًا لحكم محكمة العدل الدولية واتفاقية الجزائر، إضافة إلى إنهاء النشاط المعارض للحكومة الإثيوبية الذي كان يجري من داخل الأراضي الإرترية، وعودة زعيم حركة “قنبوت سبات” برهانو نيقا وعدد من مقاتليه وحلفائه إلى البلاد.
كما شكّل سعي أبي أحمد إلى حل التحالف الإثيوبي وتأسيس حزب “الازدهار” نقطة خلاف مركزية مع جبهة التقراي، التي رأت في هذا التوجّه مسعى لإضعاف الفيدرالية الإثنية التي أرساها ملس زيناوي، بينما اعتبره أحمد خطوة ضرورية لترسيخ الدولة المركزية وتعزيز وحدة البلاد.
شرارة الحرب
جاء تأجيل الانتخابات وتمديد ولاية البرلمان لأبي أحمد بمثابة صدمة لجبهة التقراي، التي اعتبرت الإجراء غير دستوري، فأعلنت رئيسة البرلمان ثريا إبراهيم استقالتها وعودتها إلى مكلي. وردّ الإقليم بتنظيم انتخابات محلية شارك فيها 2.7 مليون ناخب، رفضت الحكومة المركزية الإشراف عليها وعدّتها غير قانونية، بينما ردّ الإقليم بعدم اعترافه بالحكومة المركزية.
تسارعت الأحداث بعد أن أوقفت أديس أبابا التحويلات المالية عن إقليم التقراي في سبتمبر 2020، فاعتبر الإقليم ذلك إعلانًا للحرب، وطلب تدخل المجتمع الدولي، بينما وصفت الحكومة المركزية الموقف بأنه "تمرد". وفي الثاني من نوفمبر انطلقت العمليات العسكرية بين الطرفين، ودخلت البلاد مرحلة من الحرب المدمّرة التي استمرت عامين، شهدت تنسيقًا وثيقًا بين أبي أحمد والرئيس الإرتري أسياس أفورقي لتوجيه ضربة حاسمة لجبهة التقراي.
خلفت الحرب أكثر من أربعمائة ألف قتيل، ونحو ستمائة ألف نازح، وارتُكبت خلالها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ووُصفت من قبل الحكومة الفيدرالية بأنها "حملة إنفاذ القانون".
اتفاق بريتوريا
وُقع اتفاق السلام بين الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير التقراي في الثاني من نوفمبر 2022 بمدينة بريتوريا في جنوب أفريقيا، ودخل حيز التنفيذ في الثالث منه. وحمل الاتفاق اسم "اتفاق السلام الدائم من خلال الوقف الدائم للأعمال العدائية بين حكومة جمهورية إثيوبيا الفيدرالية الديمقراطية والجبهة الشعبية لتحرير التقراي".
وأكد البيان المشترك للطرفين أن الاتفاق أنهى عامين من الحرب وأرسى وقفًا دائمًا لإطلاق النار، فيما أوضح الرئيس أوباسانجو، رئيس فريق الاتحاد الأفريقي للوساطة، أن الاتفاقية تشمل “نزع سلاح منظم ومنسق”. ووقع عن الحكومة الإثيوبية مستشار الأمن القومي رضوان حسين، وعن الجبهة الشعبية لتحرير التقراي المتحدث باسمها قيتاشو رضا، بحضور الوسطاء: موسى فكي رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، وأوهورو كينياتا الرئيس الكيني السابق، وفومزيلي ملامبو نغوكا نائبة رئيس جنوب أفريقيا السابقة، والمبعوث الأمريكي مايك هامر.
تضمّنت الاتفاقية مقدمة وخمس عشرة مادة تناولت الأهداف والمبادئ الحاكمة، ووقف العدائيات الدائم، وحماية المدنيين، وضمان وصول المساعدات الإنسانية، ونزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، وتدابير بناء الثقة، واستعادة السلطة الفيدرالية في إقليم التقراي، والترتيبات الانتقالية، وآليات الرقابة والمراقبة المشتركة.
أكدت الفقرات التمهيدية الالتزام بحل النزاعات في إطار الدستور، وبأجندة الاتحاد الأفريقي الهادفة إلى “إسكات صوت المدافع” بحلول عام 2030، وترسيخ مبدأ “الحلول الأفريقية للمشكلات الأفريقية”، وصولًا إلى تسوية سلمية ودائمة تضمن احترام السيادة ووحدة البلاد.
نصت المادة الأولى على نبذ العنف كوسيلة لحل الخلافات السياسية، وضمان الأمن للجميع، وتعزيز المصالح الاقتصادية والاجتماعية.
وأكّدت المادة الثانية احترام سيادة إثيوبيا ووحدتها الترابية، وشرعية الدستور، وحماية حقوق الإنسان.
وفي المادة الثالثة، أعلن الطرفان وقفًا شاملًا وفوريًا لإطلاق النار، وشمل ذلك منع زرع الألغام أو الاستهداف عبر أطراف ثالثة، وكافة أشكال العنف وخطاب الكراهية. كما نصت المادة الرابعة على حظر العنف القائم على النوع أو اللون، والتزام القانون الدولي الإنساني.
وضمنت المادة الخامسة وصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها، فيما نصت المادة السادسة على أن لإثيوبيا جيشًا وطنيًا موحدًا، وأن تُنفذ خطة لنزع سلاح قوات التقراي تدريجيًا خلال ثلاثين يومًا من التوقيع.
كما نصت المادة السابعة على تدابير بناء الثقة، ودعت الجبهة إلى احترام الدستور والمؤسسات الاتحادية، وتجنّب التعاون مع أي جماعات مسلحة معادية، بينما التزمت الحكومة بوقف الملاحقات واستعادة الخدمات ورفع صفة “الإرهاب” عن الجبهة.
وتناولت المواد اللاحقة ترتيبات إعادة السلطة الفيدرالية للإقليم، وإنشاء إدارة مؤقتة، وإقامة آلية أفريقية مشتركة للرقابة والتحقق، وتأكيد التنفيذ بحسن نية.
بعد ثلاث سنوات من الاتفاق
مع حلول الثاني من نوفمبر 2025، تدخل اتفاقية بريتوريا عامها الثالث، لتُطرح تساؤلات حول مدى نجاحها في تحقيق السلام الداخلي والاستقرار الوطني، وما إذا كانت قد عالجت جذور الأزمة أو أفرزت تحديات جديدة.
كانت حرب المركز وإقليم التقراي إحدى أكثر محطات التاريخ الإثيوبي دموية واضطرابًا، في بلدٍ ظلت الحروب والتوترات والمجاعات مرافقة لمسيرته السياسية، رغم مكانته الإقليمية وثقله الديموغرافي والسياسي.
ومنذ العهد الإمبراطوري، حين ضم هيلاسيلاسي إرتريا عام 1962 تعزيزًا لقوة إثيوبيا البحرية والسياسية، ظلت العلاقة بين البلدين مصدر إنهاك متواصل للدولة الإثيوبية. وعندما نالت إرتريا استقلالها في 24 مايو 1993، كان الأمل أن تؤسس الدولتان تعاونًا متبادلًا، لكن إرث الصراع التاريخي حال دون ذلك، فانفجرت حرب جديدة بينهما عامي 1998–2000.
نال أبي أحمد جائزة نوبل للسلام عام 2019 تقديرًا لجهوده في إنهاء الحرب مع إرتريا، ولتحقيقه انفراجة سياسية بدت واعدة، إلا أن العلاقات بين البلدين تراجعت مجددًا بعد توقيع اتفاق بريتوريا الذي أعاد للجبهة الشعبية لتحرير التقراي وضعها السياسي وألغى عنها صفة “الإرهاب”.
أصبحت أجواء الشك والترقّب سائدة بين أديس أبابا وأسمرة، التي تلاشت آمالها في استمرار الضغط على جبهة التقراي. ومع دخول الاتفاق عامه الثالث، ما تزال تداعياته تلقي بظلالها، إذ خلّف ضحايا ومظالم يخشى أن تؤدي إلى تجدد الصراع.
ومن أبرز نتائج الاتفاق تفكك الجبهة الشعبية لتحرير التقراي نفسها، بعد انقسامات حادة داخل صفوفها بين جناح رئيسها دبريسيون قبريمايكل، والمتحدث السابق قيتاشو رضا، الذي وقّع الاتفاق وتولى رئاسة الإدارة المؤقتة قبل أن يُستبدل به تاديسي وريدي، قائد قوات الأمم المتحدة (الإثيوبية) السابق في أبيي.
تتهم مجموعة دبريسيون قيتاشو بأنه تنازل عن مصالح الجبهة، بينما تنفي بدورها أي ارتباط بإرتريا. وقد عُيّن قيتاشو لاحقًا مستشارًا لرئيس الوزراء لشؤون شرق أفريقيا. وأدلى دبريسيون بتصريحات لصحيفة “نيويورك تايمز” عبّر فيها عن عدم يقينه من بقاء إقليم التقراي ضمن الاتحاد الإثيوبي، ما زاد القلق بشأن مستقبل الفيدرالية الإثنية التي أرستها الجبهة في عهد ملس زيناوي، خاصة في ظل الغليان الذي تشهده أقاليم أوروميا وأمهرة.
وإذا كانت اتفاقية بريتوريا قد نجحت في وقف الحرب بين المركز وجبهة التقراي، فإنها جعلت احتمال اندلاع حرب بين إثيوبيا وإرتريا أكثر واقعية، إذ جاءت الاتفاقية مناقضة لتطلعات أسمرة التي استُبعدت من مشاوراتها.
كما أضافت تصريحات أبي أحمد حول ضرورة حصول بلاده على منفذٍ بحري، وقوله إن فقدانه "خطأ تاريخي يجب تصحيحه"، فضلًا عن الاتفاق الذي وقّعه مع صوماليلاند، عنصرًا جديدًا زاد التوتر بين أديس أبابا وأسمرة، في وقت تشهد فيه المنطقة أصلًا أزمات متشابكة بسبب الحرب في السودان والخلاف حول سد النهضة.
خاتمة
تُظهر تجربة اتفاق بريتوريا أن التسويات السياسية في إثيوبيا ما زالت هشّة، وأن قدرة الدولة على تحويل الاتفاقات إلى استقرار دائم تتأثر بعوامل داخلية وإقليمية متشابكة. فبينما أنهت الاتفاقية حربًا داخلية مدمّرة، فتحت الباب أمام توترات جديدة مع الجوار، لتبقى إثيوبيا أمام اختبارٍ صعبٍ بين إعادة بناء الدولة الاتحادية والحفاظ على توازناتها الإقليمية الحساسة.