المركز الافريقي للاستشارات
منذ استقلال الكونغو عن بلجيكا عام 1960 دخلت البلاد في سلسلة أزمات سياسية وأمنية متواصلة، كان أبرزها اغتيال الزعيم الوطني باتريس لومومبا، وانفصال أقاليم غنية بالموارد، ثم انقلاب الجنرال موبوتو الذي حكم البلاد لعقود بالحديد والنار. وخلال التسعينيات تحولت الكونغو إلى ساحة صراع إقليمي، حيث اندلعت حربان دمويتان عُرفتا بـ"الحروب الكونغولية" وأسفرتا عن ملايين القتلى والنازحين. ورغم توقيع اتفاق سلام في 2003، لم تتمكن البلاد من التخلص من دوامة العنف، وبقي شرق الكونغو بؤرة متجددة للنزاعات المسلحة بسبب ضعف مؤسسات الدولة وتدخل القوى الإقليمية، خاصة رواندا وأوغندا. هذه الخلفية الموجزة تضع الأساس لفهم ما يجري اليوم من أزمة متجددة تمثل امتداداً لتاريخ طويل من الاضطراب.
الأحداث الأخيرة تعود جذورها إلى عام 2021 عندما تجدد نشاط الحركات المسلحة في إقليمي كيفو وإيتوري، في مقدمتها "القوات الديمقراطية المتحالفة" (ADF) وحركة M23 التي كانت قد هُزمت عام 2013. لكن بحلول 2022–2023، بدأت الحركة تستعيد قوتها تدريجياً، وسط اتهامات مباشرة لرواندا بتقديم الدعم اللوجستي والعسكري لها. هذا التصعيد تزامن مع عجز الحكومة الكونغولية عن فرض سيطرتها، رغم إعلان الرئيس فيليكس تشيسكيدي حالة الطوارئ في الشرق ونشر الجيش.
مع مطلع 2024 دخلت الأزمة مرحلة أشد خطورة. تقارير الأمم المتحدة أكدت أن حركة M23 سيطرت على بلدات رئيسية شمال غوما، ما أدى إلى موجات نزوح جديدة رفعت عدد النازحين في الكونغو إلى أكثر من 7 ملايين شخص، وهو أعلى رقم في تاريخ البلاد الحديث. وفي الوقت نفسه تزايدت الهجمات على المدنيين، بما في ذلك أعمال قتل جماعي وعنف جنسي ممنهج، الأمر الذي وصفته منظمات دولية بأنه "جرائم ضد الإنسانية".
في يناير 2025 تصاعد الموقف بشكل غير مسبوق حين اجتاحت قوات M23 مدينة غوما، إحدى أهم مدن شرق الكونغو، قبل أن تتوسع في فبراير نحو بوكاڤو، ما أحدث صدمة على المستويين المحلي والدولي ، بينما أعادت الأمم المتحدة النظر في دور بعثتها "مونوسكو" التي بدأت في تقليص قواتها على الأرض. وخلال الأشهر التالية، تفاقمت الأزمة الإنسانية بشكل كارثي: أكثر من 25 مليون مواطن باتوا بحاجة ماسة للمساعدات، فيما سجلت منظمات حقوقية تضاعف حالات العنف الجنسي .
في خضم هذه المأساة الإنسانية جاء الحراك الدبلوماسي لإيجاد مخرج سياسي. برعاية أمريكية، عُقدت سلسلة من الاجتماعات بين حكومتي الكونغو ورواندا، انتهت في يونيو 2025 إلى توقيع اتفاق سلام سُمّي "اتفاق واشنطن". بموجب الاتفاق التزمت كينشاسا وكيغالي باحترام سيادة كل منهما ووحدة أراضيه، ووقف دعم الجماعات المسلحة العابرة للحدود، وإنشاء آلية متابعة مشتركة تضم الاتحاد الإفريقي وقطر والولايات المتحدة كضامنين.
رغم ذلك، يشكل الاتفاق منعطفاً مهماً لأنه أعاد فتح باب الحوار الإقليمي، ولأنه لأول مرة حمل التزامات واضحة على رواندا بوقف دعم المتمردين، وهو ما كانت الكونغو تطالب به منذ سنوات. كما أن الاتفاق أطلق مساراً لمحادثات حول إعادة النازحين وتعزيز الرقابة على تجارة المعادن النادرة التي تموّل الصراع. غير أن الكثير من المراقبين يشككون في قدرة الاتفاق على تغيير الواقع الميداني ما لم يُدمج المتمردون في عملية سلام شاملة، وما لم يتم تعزيز وجود الدولة في الشرق.
في مسار اخر وفي أبريل 2025، وبوساطة قطرية في الدوحة، نجحت حكومة الكونغو الديمقراطية وحركة إم23 لأول مرة في إصدار بيان مشترك أكد التزامهما بوقف فوري للأعمال العدائية ورفض أي خطاب للكراهية أو التهديد، وهو ما مثّل بداية مسار تفاوضي جديد لإنهاء دوامة الصراع في شرق البلاد. وتوّجت هذه الجهود بتوقيع إعلان مبادئ في الدوحة في التاسع عشر من يوليو من العام نفسه، بحضور ممثلين عن الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، حيث نص الاتفاق على وقف دائم لاستخدام القوة، وإنشاء آلية مشتركة لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار، إلى جانب تبادل السجناء وضمان عودة آمنة للنازحين واللاجئين، مع تعزيز سلطة الدولة في المناطق الخاضعة لسيطرة المتمردين، والتأكيد مجددًا على رفض كل أشكال خطاب الكراهية.
هنالك عدد من السيناريوهات المحتملة يتمثل السيناريو الأول في تثبيت الاستقرار عبر نجاح الاتفاقات، وذلك إذا التزمت رواندا بوقف دعمها للحركات المسلحة وانخرطت حركة M23 في العملية السياسية. أما السيناريو الثاني فيتعلق بانتكاس الاتفاق نتيجة استمرار سيطرة M23 ميدانيًا دون انسحاب، وهو ما من شأنه تقويض ثقة المجتمع الدولي. في المقابل يظل احتمال التصعيد الإقليمي قائمًا في حال عودة التدخلات عبر الحدود وفشل آليات الرقابة، بما قد يفتح الباب أمام حرب أوسع.
ايضا تواجه الأزمة جملة من التحديات أبرزها ضعف مؤسسات الدولة الكونغولية في الشرق وغياب الثقة المتبادلة بين كينشاسا وكيغالي، إضافة إلى تعقيدات اقتصاد الحرب المرتبط بالمعادن النادرة، فضلًا عن الكلفة الإنسانية الباهظة مع ملايين النازحين.
ورغم هذه التحديات، تبرز بعض الفرص المهمة، ومنها وجود مظلة إقليمية ودولية مثل مساري واشنطن والدوحة بما يوفر ضمانات متعددة، إلى جانب إدراج ملف العائدين واللاجئين ضمن الاتفاقات، فضلاً عن رغبة المجتمع الدولي في تقليص بؤر النزاع التي تغذي الجماعات المتطرفة.
اليوم يقف المشهد الكونغولي على مفترق طرق. من ناحية، هناك اتفاق سياسي يحاول إيقاف نزيف الحرب وإرساء تفاهمات إقليمية، ومن ناحية أخرى هناك واقع إنساني مأساوي مع ملايين النازحين وغياب أفق حقيقي لعودة الاستقرار سريعاً. وبين ضغوط المجتمع الدولي، وتردد بعض الأطراف في الالتزام الكامل ببنود الاتفاق، يبقى مستقبل الكونغو رهيناً بقدرتها على تحويل التفاهمات الورقية إلى إجراءات ملموسة تُنهي واحدة من أطول الأزمات وأكثرها دموية في إفريقيا المعاصرة.