عباس محمد صالح عباس- باحث ومحلل سياسي
(abbass8salih@gmoail.com)
• إثيوبيا:
جاء اندلاع الصراع في السودان في خضم توتر كامن كان قد طرأ على العلاقات بين السودان وإثيوبيا من قضية سد النهضة إلى منطقة "الفشقة" وحرب تيغراي.
مثّل الصراع الذي اندلع في 14 أبريل/نيسان بالنسبة لإثيوبيا فرصة وتحديا؛ كان هو فرصة للمغامرة بدعم تغيير قد يحمل مجموعات موالية لها داخل السودان. كما كان أيضًا تحديًا؛ إذ يتزامن مع تفجر تمرّد مسلح في إقليم أمهرا وسلام هش في إقليم تيغراي. ووجود هاتين المنطقتين بالقرب من الحدود مع السودان جعل الموقف الإثيوبي أشبه بالمأزق.
يالنسبة للعديد من المراقبين، وحتى قبل تكشُّف الدعم الاماراتي واحتوائها بشتى الطرق لدول الجوار لمصلحة الميليشيا المتمردة، حددت تصريحات رئيس الوزراء في قمة لرؤساء الدول والحكومات بالهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد) في (يوليو 2023) والتي دعا فيها إلى نزع الأسلحة الثقيلة وفرض حظر للطيران- حددت مواقف بلاده تجاه الصراع بين الدولة السودانية والقوات المسلحة والمتمردين من ميليشيا قوات الدعم السريع. وبدا أنّ إثيوبيا ترغب في الانتقام من القيادة السودانية الحالية نتيجة موقف هذه القيادة من حربها على إقليم تيغراي بين 2020 و2022 وسيطرتها على منطقة "الفشقة" بينما قواتها منشغلة بتلك الحرب، أو أنها تراهن على انتصار ميليشيا الدعم السريع والاستيلاء على السلطة في السودان.
في ضوء أجندة السياسة الخارجية لإثيوبيا تجاه جوارها، يمكن قراءة موقف آبي أحمد من الصراع في السودان في أبعاده الإقليمية؛ فبالنسبة لأديس أبابا فإنّ الصراع بين القوات المسلحة والدعم السريع قد يحمل تغييرات جذرية في السودان قد تصب في مصلحة إثيوبيا سياسياً وعسكرياً؛ ولا سيما في حالة حدوث تغيير جذري يكون فيه الدعم السريع هو الفاعل الأول في البلاد.
كما أنّ تفوق الدعم السريع- وفقًا للحسابات الإثيوبية - أيضاً قد يحد من النفوذ والتأثير المصري المتخيل في المشهد السوداني؛ ولا سيما التحالف أو الدعم المصري "المزعوم" للقوات المسلحة.
غير أنّ الموقف الإثيوبي سرعان ما تغير إلى "حياد تكتيكي" ويعود سبب ذلك التغيير إلى التفاعلات الداخلية في إثيوبيا والتطور في أقصى شمالها حيث الحدود الهشة والمضطربة وغير المُسيطر عليها مع السودان.
إضافة إلى ذلك، ومع استمرار تمدد ميليشيا الدعم السريع ووصولها إلى ولاية سنار وسيطرتها على سنجة عاصمة الإقليم في يونيو/حزيران 2024 حيث أصبح المتمردون قريبًا من حدود إثيوبيا التي لا تسيطر عليها على الجانب الإثيوبي الحكومة الفيدرالية بل ميليشيا محلية تُعرف باسم "فانو". وهنا أدركت إثيوبيا أنّ تمدد الدعم السريع تحول إلى خطر، وليس فرصة، كما كانت تراهن.
بالتالي - وحيال هذه التطورات - يتعين عليها الموازنة بين خيارات صعبة حيال الصراع السوداني: إمّا التحالف مع أبو ظبي والانخراط في مشروعها في السودان على غرار بقية دول الجوار. أو التظاهر بالحياد لكسب ود الحكومة السودانية/ القوات المسلحة لتحييد السودان عن معادلات الصراع الداخلي وموازين القوة في شمال إثيوبيا (إقليمي أمهرا وتيغراي).
• تشاد:
لم يكن التدخل التشادي المباشر بعيداً عن أزمات السودان وتحديدًا دارفور ولا سيما في بعض مراحل التمرد الأخير في العام 2003. كانت تشاد منذ ذلك الحين فاعلًا رئيسًا في هذا الصراع سواء في مرحلة دعم وتبني المتمردين أو مراحل المصالحة مع الحكومة السودانية.
فمع بروز مهددات مشتركة ومخاطر حروب الوكالة بين البلدين، توصل البلدان في منتصف يناير/كانون الأول 2010 لتوقيع بروتوكول أمني عسكري تم بموجبه إنشاء القوات المشتركة بين تشاد والسودان لتأمين الحدود والتصدي للحركات المسلحة المعارضة لحكومتي البلدين.
حتى في أعقاب اندلاع الصراع في السودان كان الموقف التشادي ينطلق من الحياد ودعوة الأطراف للجلوس للتفاوض لإنهاء هذا الصراع. كما كانت أنجمينا أيضًا جزءًا من آلية دول جوار السودان التي طرحتها مصر.
إلا أنّ الموقف التشادي قد أخذ ينزاح تدريجيًا من "الحياد" إلى التورط المباشر بعد قيامها بتسليم قاعدة "أم جرس" الواقعة شرقي تشاد إلى أبو ظبي- بحسب تأكيدات تقارير دولية موثوقة - والتي غدت خط الإمداد الرئيسي لميليشيات الدعم السريع في حربها على الدولة السودانية.
ففي ظل قيادة كاكا في تشاد، وبروز نظام مأزوم داخلياً؛ حدث تحوّل في النظام التشادي - من داعم إلى مجموعات متمردة في السودان لها امتدادات لقبيلة "الزغاوة" الحاكمة في تشاد مثل حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان- إلى داعم للتمرد الذي تقوده ميليشيا الدعم السريع.
إنّ نظام ديبي الصغير هش إلى حد كبير على مستوى الداخل، مقارنة مع النظام الذي ورثه من والده الراحل الذي كان متمرسًا في التعامل مع التحديات الداخلية والبيئة الإقليمية المتقلبة، كما لم يدرك العواقب التي ستترتب على تورطه في حرب السودان على تماسكه مستقبلًا.
ويهدد هذا المسلك أهم الثوابت التي قام بها النظام في تشاد ألا وهي السياسة العشائرية في تمكين "الزغاوة" كفاعل في الحكم والسياسة وتشاد على حد سواء. فارتدادات حرب السودان قطعًا ستؤثر سلبًا على هذه السياسة العشائرية في كلا البلدين.
كما أن تخلي "كاكا الابن" عن المظلة الأمنية التي كانت توفرها فرنسا لنظام الحكم في إنجمينا والتي أعلنت انسحابها من البلاد بعد عقود من الحضور الأمني الفاعل بعد إعلام تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
رغم أنّ تمرد ميليشيا الدعم السريع ستكون له عواقب وخيمة على الأمن والاستقرار في تشاد في المدى المنظور؛ مع ذلك آثر كاكا القبول والخضوع للإغراءات الإماراتية الضخمة.
فتورط "كاكا" في دعم ميليشيات الدعم السريع وغض الطرف عن إرسال مرتزقة تشاديين بجانب الإمداد العسكري للحرب في السودان انطلاقًا من قاعدة "أم جرس" سيقود إلى إضعاف نظامه وتهديد استقراره.
وحتى مع احتمالات زعزعة استقرار البلاد، فمن الواضح كان غض الطرف تكتيكيًا عن مشاركة مرتزقة من تشاد ("النهائي لفريق خبراء الأمم المتحدة المعني بالسودان"؛ نسخة مترجمة إلى العربية؛ بدون تاريخ) وتحديدًا من القبائل العربية بهدف التقليل من "التعبئة المناهضة للحكومة داخل تشاد". (تقرير الخبراء إلى مجلس الأمن 14 أبريل/ نيسان 2025؛ ص 24).
فانتصار الدعم السريع في حرب السودان يعني إضعاف قاعدته العشائرية وتحريضها ضده لعدم دعمه أبناء عمومتهم في مدينة الفاشر (عاصمة ولاية شمال دارفور) الخاضعة لحصار وحشي لأكثر من عام ونصف العام. كما ستقود خسارة الدعم السريع الحرب إلى زعزعة أمن بلاده وانتقال الصراعات إلى داخل تشاد واحتمالات نشوب توترات بين مكون الزغاوة (المهيمن على السلطة والثروة) من جهة، والمكونات العربية والقرعان المنافسة والأدعى للتمرد والعصيان ضد هيمنة الزغاوة، من جهة أخرى.
وما لم تتغير مواقف تشاد الحالية بشأن الصراع في السودان - تشير بعض التقارير إلى وجود تواصل بين السودان ونظام كاكا - فسيتعين عليها مواجهة العواقب الخطيرة مستقبلًا؛ فمع تواصل تراجع ميليشيات الدعم السريع وخسارتها العسكرية يتوقع انتقال الاقتتال إلى دارفور حيث سيتدفق الآلاف من ولايات دارفور إلى تشاد إما تحت تأثير دعاية الاستهداف لحواضن الميليشيا ومؤيديها أو نتيجة الاقتتال القبلي حيث تتوزع بعض المكونات والقبائل المشتركة على جانبي الحدود، أو انتقال مجموعة قبلية تشادية لمناصرة ميليشيا الدعم السريع و"حواضنها" إذا ما اتخذ الصراع هناك طابعًا قبليا وعشائريا عابرًا للحدود.
يرصد فريق الخبراء المعني بالسودان، مشاركة عناصر تشادية في الصراع الحالي في السودان؛ حيث نسج الدعم السريع علاقات مع عناصر من القرعان و"جبهة التناوب والوفاق" بقيادة عبد الله جوميني والتي أصبحت تقاتل في صفوفه اعتبارًا من فبراير/ شباط 2024 (رسالة فريق الخبراء إلى مجلس الأمن 14 أبريل/نيسان 2025؛ ص 24)
• مصر:
سيطرت سرديّة تكاد تكون محل إجماع عن دعم مصر للقوات المسلحة السودانية وحلفائها من القوى الوطنية والسياسية ضد الدعم السريع وحلفائه في الصراع الحالي في السودان.
غير أنّ الدعم المصري المزعوم لم يكن مؤثراً لا على الصعيد العسكري ولا السياسي والدبلوماسي بالقدر الذي يرقى إلى وصف علاقات البلدين بالتحالف أو الشراكة أو وصفها بكونها داعما رئيسا للقوات السودانية المسلحة أثناء هذا الصراع.
لكن نجحت مصر التي كانت تتولى الرئاسة الدورية لمجلس السلم والأمن الأفريقي لشهر أكتوبر 2024 في تنظيم زيارة ميدانية إلى بورتسودان بين 1- 4 أكتوبر/ تشرين الأول. شكّلت هذه الزيارة خطوة مهمة في تغيير إدراك الإتحاد الإفريقي للصراع والانفتاح على الحوار مع حكومة الأمر الواقع القائمة؛ ممثلةً في مجلس السيادة الانتقالي.
كانت مصر من أكثر الدول التي تأثرت بتطورات الأوضاع حيث استقبلت آلاف اللاجئين الفارين من الصراع سواءً عبر الطرق المشروعة أو عبر التهريب، بينما كانت تواجه مخاطر ومهددات في حدودها الغربية مع ليبيا ومؤخرًا على حدودها الشرقية مع تصاعد العدوان الصهيوني على قطاع غزة منذ أحداث السابع من أكتوبر.
وعلى الصعيد السياسي، من خلال مبادرة دول جوار السودان؛ التي عقدت قمة لها على مستوى رؤساء الدول والحكومات (يوليو/تموز 2023) سعت مصر للعب دور فاعل في الجهود المتعددة الأطراف لحل الصراع السياسي، كما عملت على إخفاء الطابع الرسمي على جهودها تلك لدى المنظمات الإقليمية والدولية المهتمة بالصراع في السودان، فضلًا عن السعي لقبول جميع الأطراف داخل السودان وخارجه. حيث عملت على عقد اجتماعات بين مختلف القوى السياسية المدنية (6-7 يوليو/تموز 2024) بهدف تسهيل الوصول إلى تسوية سياسية مستدامة بعد إنهاء الصراع الحالي منذ أبريل/ نيسان 2023.
بالرغم من أن مواقف مصر كانت تنطلق من أهمية السودان لأمنها القومي وأمن حدودها الجنوبية على وجه التحديد، وتأكيد مسؤوليها أكثر من مناسبة على أن مصر تدعم المحافظة على مؤسسات الدولة (يُترجم هنا مؤسسة القوات المسلحة) بيد أنّ موقف مصر تجاه الصراع في السودان ظل محكوماً "بحساسيات" حالت دون انخراطها بقوة في هذا الصراع ومنها:
1. صعوبة التنبؤ بمآلات موازين القوى:
في الأيام الأولى للحرب كان من الصعب توقعات موازين القوى لمصلحة أحد الأطراف؛ خاصة في ضوء نجاح ميليشيا الدعم السريع في السيطرة على العاصمة وأهم المؤسسات السيادية للدولة والمواقع الحيوية؛ مما جعل مصر حائرة بين خيارين: إمّا أن تقبل بسيطرة الدعم السريع واستيلائه على السلطة وتتعايش مع ذلك. أو تدعم القوات المسلحة في هذا الصراع؛ والتي بدت وكأنها قد خسرت الحرب بعد وقوع قيادتها العليا ومقارها تحت الحصار ووابل نيران هجمات الأطواف البشرية للميليشيا وتتابع سقوط المدن والمناطق.
2. الضغوط والإغراءات الإماراتية:
كانت الضغوط والإغراءات التي مارستها الإمارات على مصر؛ إذ تتمتع أبو ظبي بنفوذ قوي جدًا على النظام الحالي في مصر بعد 2013 وبالتالي لن يكون في مقدور هذا النظام معارضة بعض مشاريع أبو ظبي الإقليمية - بصفتها الراعي والداعم الأساسي الذي يقف وراء تمرد الدعم السريع- حتى ولو تعارضت مع مصالحها أو ثوابت أمنها القومي، وتحديدًا في السودان.
3. الحفاظ على الحياد السياسي:
وجدت مصر نفسها في مأزق الموازنة والتزام الحياد تجاه الانقسام والاستقطاب الحاد بين القوى والفاعلين في المشهد السياسي السوداني شديد التشظي والانقسام، ولا سيما وأنّ المواقف بين القوى السياسية تجاه الصراع قد قسمت البلاد لفسطاطين لا ثالث لهما: إما مع فسطاط القوات المسلحة أو مع فسطاط ميليشيا الدعم السريع المتمردة.
4. مزاعم نفوذ الإسلاميين داخل القوات المسلحة:
ظلت التحركات والإدراك المصري تجاه الصراع أيضًا ينطلق من هواجس عودة الإسلاميين أو نفوذهم المفترض داخل المؤسسة العسكرية ولا سيما باعتبارهم أكبر الكتل الوطنية الداعمة للقوات المسلحة في حرب الكرامة. لذا كانت مصر مترددة في تقديم دعم قوي ومؤثر على صعيد تحقيق الحسم العسكري أو تغيير موازين القوة على الأرض، حيث تخشى من دعم القوات المسلحة مما يؤدي لعودة الإسلاميين مجددًا.
بل إنّ مصر، في مرحلة ما، ربما كانت ترضخ أو تساير الضغوط الإقليمية والدولية التي مورست على قيادة القوات النظامية، بهدف دفعها إلى تليين مواقفها، والانخراط في مفاوضات، أو تقديم تنازلات داخلية لإرضاء تلك الأطراف.
وعلى الرغم مما رافق الأزمة من تحديات واجهت السودانيين الفارين من الحرب إلى دول الجوار؛ فقد برزت صورة إيجابية لمصر سواء كدولة أو شعب - من بين جميع دول الجوار- في نظر قطاعات واسعة من المجتمع السوداني، وذلك على الرغم من بعض الإجراءات الصارمة للحد من سلبيات تدفق موجات اللاجئين إلى مصر. فقد ترسخت لدى هذه الفئات قناعة بأنّ مصر قد تمثل شريكًا مستقبليًا واعدًا للسودان، يمكن أن يوفر لها بدائل وفرصًا في ظل أزمات البلاد المتجددة.
• ليبيا:
منذ اندلاع ثورة 17 فبراير/ شباط والتي أطاحت بنظام العقيد معمر القذافي في العام 2011، أصبحت مناطق جنوب ليبيا بشكل عام ومثلت الحدود مع تشاد والسودان على وجه الخصوص أكثر المناطق رخاوةً؛ حيث تعيث فيها شبكات الجريمة المنظمة العابرة للحدود وحركات التمرد من تشاد والسودان (دارفور) فساداً وفوضى ضاربة الأطناب، فضلًا عن تدفق الأسلحة غير المشروعة منها إلى منطقة الساحل الكبير وزعزعة استقرار وأمن بعض دوله؛ مثل مالي، عقب عودة الطوارق إلى شمالها كمثال بارز هنا.
فقبل اندلاع التمرد الحالي الذي قادته ميليشيا الدعم السريع كانت ولايات دارفور تعيش في حالة ما بعد الحرب، حيث كانت المنطقة تتجه رويدًا رويدًا نحو سلام بطيئ تم فرضه بالقوة بعد اندحار حركات التمرد الرئيسة وفرارها إلى ليبيا وجنوب السودان.
وبعد اندلاع الصراع في أبريل/نيسان 2023، عادت جنوب وشرق ليبيا الخاضعة لسيطرة الحكومة التابعة للواء المتقاعد خليفة حفتر وقواته وميليشياته لتصبح إحدى الطرق الرئيسة لتوصيل الإمداد والدعم العسكري لميليشيا الدعم السريع بشكل مباشر اعتبارًا من يونيو/حزيران 2025، ولا سيما بعد تعثر رهان أبوظبي على مشروع السيطرة على الحكم والسلطة في السودان بالقوة، وخسارتها عدة جبهات، وتراجعها إلى دارفور كآخر معاقلها.
وكغيرها من دول جوار السودان تأثرت مناطق الحدود بتداعيات الصراع في السودان؛ جراء فرار مئات الآلاف من اللاجئين إلى الأراضي الليبية، وكذلك تحول مناطق الحدود الهشة والمسيطر عليها من حكومة الوفاق الوطني (حكومة حفتر التي تسيطر على سائر شرق ليبيا) إلى إمداد جديد وبؤرة محتملة لتأجيج الصراع في السودان وربما تشاد في ظل التواجد المكثف لحركات المرتزقة والتمرد من عموم دول المنطقة.
على صعيد التحركات الدبلوماسية سعت حكومة الدبيبة للقيام بوساطة (كانت غير مفهومة في سياق الأزمة السودانية ولم تتوفر على عناصر لإنجاحها حتى) تجاه الصراع في السودان كُشف عنها في مارس/آذار 2024 لكنها ماتت في مهدها.
أصبحت سلطات الأمر الواقع الخاضعة لنفوذ وهيمنة فريق حفتر؛ وتحديدًا في جنوب ليبيا متورطة في الأزمة السودانية كنتيجة حتمية للانقسام الحاصل في البلاد بين حكومتي الشرق والغرب، والتحالف القوي بين حفتر وأبو ظبي في ليبيا ما بعد الثورة.
ويتعمق هذا التورط الليبي في ظل غياب السلطات المركزية وأجهزة الحكومة المعترف بها دوليًا في طرابلس وعدم سيطرتها على الحدود مع السودان ومع ازدياد الأنشطة الإجرامية ومؤخرًا تحول بعض القواعد العسكرية الخاصة لما يسمى بالجيش الوطني الليبي (قوات حفتر) والتحركات الاستطلاعية مؤخرًا لميليشيا "كتائب سبل السلام" السلفية التوجه المتحالفة والتابعة لقوات حفتر - وذات الصلة بعمليات التهريب والمتمركزة في مدينة الكفرة - في مناطق الحدود مع السودان إلى خطوط إمداد لتمرير الدعم اللوجيستي عبر الحدود تحت غطاء محاربة شبكات تهريب البشر والجريمة المنظمة.
وبالرغم من أنّ التورط في مستنقع الصراع السوداني خاصة بعد أحداث المثلث بين السودان وليبيا ومصر الأخيرة سيكون على حساب طموحاته في السيطرة على طرابلس وتأكيد شرعيته على الصعيد الدولي، ولا سيّما أن قوات حفتر تعتمد على المرتزقة الأجانب والميليشيات في عملياتها، وتعمل على السيطرة على العاصمة طرابلس وهزيمة حكومة عبد الحميد الدبيبة وقواتها وميليشياتها.
فمن غير المتوقع تورط حفتر بصورة أعمق في الصراع السوداني بعيدًا عمّا جرى في منطقة المثلث الحدودي المترامية الأطراف والمكشوفة، والتي سيكون البقاء فيها مكلفًا لكل هذه الأطراف؛ ميليشيات الدعم السريع وقوات حفتر ومن ورائهما دولة الإمارات.
تأكيداً لما سبق، ووفقاً لفريق خبراء الأمم المتحدة لا تزال حركات دارفورية متمردة تتمركز في جنوب ليبيا وتتحرك عبر الحدود الهشة مع السودان وتشاد وحتى مصر بعد سيطرة ميليشيا الدعم السريع على منطقة "المثلث" شمال غربي السودان. (رسالة الخبراء إلى مجلس الأمن 14 أبريل/ نيسان 2025؛ ص 25)
وفي ضوء التورط الأخير لقوات حفتر في دعم الدعم السريع، وتحويل القواعد والمطارات في جنوب ليبيا إلى دعم التمرد في السودان، ومحاولة إنقاذه من الهزائم المتلاحقة؛ فإنّ جنوب ليبيا ستتحول إلى ساحة تتجمع فيها حركات متمردة وشبكات إجرامية عابرة للحدود، خاصة في حال تمكنت القوات المسلحة السودانية من سحق ميليشيا الدعم السريع في تقدمها لتحرير كامل ولايات دارفور، مما يجعل هروب فلول الميليشيا وعناصرها إلى ليبيا سيناريو أرجح.
ثالثًا: تحليل مواقف المنظمات القارية
أ. الاتحاد الإفريقي:
رغم أن الاتحاد الإفريقي سارع إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس السلم والأمن في أبريل/ نيسان 2023، وأعلن عن خارطة طريق تتضمن ست نقاط، إلا أن استجابته لم تلبِّ حجم الأزمة. سرعان ما بدا واضحًا عجز المنظمة عن التعامل مع طبيعة الصراع المتغيرة في الدول الأعضاء، وافتقارها للقدرة على اتخاذ إجراءات فعالة للوقاية أو الحل.
فمنذ انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 وحتى اندلاع الحرب في أبريل/ نيسان 2023، لم تظهر أجهزة الاتحاد المعنية بالدبلوماسية الوقائية وفهم النزاعات أي تحليل واقعي للديناميات السياسية في السودان؛ بل ظلت مواقف الاتحاد رهينة قراره السابق بتجميد عضوية السودان بسبب الانقلاب العسكري الذي أنهى الترتيبات المدنية التي انطلقت بموجب الوثيقة الدستورية في أغسطس/ آب 2019.
ورغم كون الاتحاد الإفريقي أحد أطراف "الآلية الثلاثية" (إلى جانب الأمم المتحدة و"إيغاد")، إلا أن مبعوثه الخاص للسودان، السفير محمد بلعيش، لم يتحرك لمنع تدهور الأوضاع، وتجنّبت المنظمة اتخاذ خطوات وقائية في وقت كانت البلاد فيه على شفا الانهيار.
أظهرت أزمة السودان بجلاء فشل آليات الإنذار المبكر لدى الاتحاد الإفريقي؛ إذ حذّر مبعوثه من "تدخلات خارجية في الحوار السوداني" في وقت مبكر ("آفريكا إنتليجنس"؛ 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2022)، دون أن يتبع ذلك أي تحرك حقيقي. بل بدا أن الاتحاد ليس عاجزًا فقط، بل وربما متواطئًا ضمنًا في ما حدث.
وقد انحصرت تحركات الاتحاد في اجتماعات مكرورة وآليات شكلية وبيانات بلا مضمون عملي. حتى خارطة الطريق التي تمّ تبنيها في 27 مايو/ أيار 2023 خلال اجتماع مجلس رؤساء الدول والحكومات، بقيت دون تنفيذ فعلي. تضمنت الخارطة ("بيان الاجتماع الثالث للآلية الموسعة حول أزمة السودان" 31 مايو/ أيار 2023، ص5) أهدافًا طموحة مثل:
1. تنسيق الجهود الدولية والإقليمية في مسار موحّد.
2. وقف شامل وفوري للعنف.
3. تسهيل الاستجابة الإنسانية.
4. حماية المدنيين والبنية التحتية.
5. تعزيز دور دول الجوار في الضغط على الأطراف.
6. استئناف المسار السياسي المدني بمشاركة الجميع.
ورغم هذه البنود، ظلت حالة الجمود مستمرة؛ إلى أن تعزز التوجه الدولي نحو إشراك القوى المدنية.
وفي يناير/ كانون الثاني 2024، تمّ تعيين الدبلوماسي الغاني محمد بن شمباس رئيسًا لفريق رفيع المستوى بشأن السودان، بتفويض للتعامل مع جميع الأطراف المحلية والدولية لدفع العملية السياسية.
لكن مجددًا، اصطدمت جهود الفريق بالانقسامات السياسية الداخلية، حيث توزعت الولاءات بين الجيش والدعم السريع. وبعد جولتي حوار في يوليو/تموز وأغسطس/آب 2024، وصلت المهمة إلى طريق مسدود، كما أظهرت وثيقة "مصفوفة المجالات المواضيعية: نقاط التقارب والاختلاف بين مجموعتي يوليو وأغسطس السودانيتين [بدون تاريخ]" والتي عكست حجم التباعد بين المجموعات السياسية.
وعلى الرغم من تكرار رفض الاتحاد الإفريقي للتدخلات الخارجية، فإنه امتنع عن تسمية الأطراف الضالعة، خصوصًا الإمارات، أو تحميل المسؤولية بشكل عادل. بل حتى لجنة التحقيق في الانتهاكات في السودان التي أُعلنت عنها "اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب" (ACHPR) في أغسطس/آب 2024، بتوجيه من مجلس السلم والأمن الإفريقي، لم يتم تفعيلها فعليًا.
أمّا أبرز مؤشرات الغياب الفعلي للإرادة السياسية، فتمثلت في بيان مجلس السلم والأمن في يونيو/حزيران 2024، حيث تم تكليف اللجنة الفرعية المعنية بالعقوبات بالتنسيق مع مفوضية الاتحاد الإفريقي ولجنة أجهزة الأمن والمخابرات الإفريقية (CISSA) بهدف تحديد جميع الجهات الخارجية التي تقدم دعماً عسكريًا أو سياسيًا أو ماليًا للأطراف المتحاربة. رغم مرور الوقت، لم يصدر أي تقرير بهذا الخصوص.
رغم تكرار شكاوى الاتحاد الإفريقي من التهميش والتجاهل، إلا أنه في الواقع كان طرفًا في تعقيد مشهد الوساطات وتداخلاتها؛ إذ أنشأ خلال عام واحد ثلاث آليات مختلفة، في الوقت الذي كان يشارك فيه بصفة مراقب في المحادثات التي جرت في جدة وجنيف (مرام مهدي، 2024).
هكذا، تحوّل شعار "الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية" إلى عبارة بلا مضمون، وفقد الاتحاد مكانته كفاعل قيادي، ليتحول إلى تابع يتنقل بين مسارات متباينة كمنبر جدة، و"مبادرة دول الجوار"، وآلية "التحالف من أجل إنقاذ الأرواح والسلام في السودان".
علاوة على ذلك، ومن أبرز تجليات فشله أيضًا إخفاق اللجنة الرئاسية المخصصة التي أعلن عنها في يونيو/حزيران 2024، برئاسة الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني، والتي كان يُفترض أن تسعى لعقد لقاء بين الجنرالين البرهان وحميدتي، دون إحراز أي تقدم.
ب. الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد)
وجدت منظمة "إيغاد" نفسها في قلب صراعات حادة بين بعض دولها الأعضاء بشأن كيفية التعامل مع الأزمة السودانية، ما انعكس سلبًا على قدرتها في التأثير الفعّال ضمن الجهود الإقليمية والدولية في هذا الملف. وقد أدى التنافس داخل اللجنة الرباعية لإيغاد، خاصة بين جيبوتي – التي تتولى الرئاسة الدورية – وكل من إثيوبيا، كينيا، وجنوب السودان، إلى تقويض جهود المنظمة، ليس فقط في لعب دور مؤثر في حل الأزمة السودانية، بل وأيضًا في علاقتها مع الاتحاد الإفريقي، حيث نشأ خلاف وتنافس حول من يقود المبادرات الدبلوماسية المتعلقة بالسودان.
وعلى الرغم من محاولات التنسيق وتوحيد المبادرات، وقعت "إيغاد" في نفس أخطاء الاتحاد الإفريقي، نتيجة انطلاقها من فرضيات خاطئة، أهمها مساواتها بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، باعتبارهما طرفين متساويين من حيث الشرعية. هذا النهج أفقد المنظمة ثقة الحكومة السودانية، التي رأت فيه انحيازًا وتواطؤًا غير مقبول.
وفي 10 يوليو/تموز 2023، اعتمدت رباعية الإيغاد خارطة طريق لحل الأزمة في السودان، كما ناقشت احتمال نشر القوة الاحتياطية لشرق إفريقيا والذي قوبل برفض صارم من السودان. وقد رأى بعض المراقبين في هذه الخطوة محاولة جديدة لمنح التمرد مكاسب سياسية عجز عن تحقيقها ميدانيًا، فضلاً عن خدمتها لأجندات أطراف خارجية على حساب مبادئ وقيم المجموعة الإقليمية.
وبسبب هذا الموقف، قررت الحكومة السودانية في يناير/كانون الثاني 2024 تعليق عضويتها في المنظمة، ما شكّل ضربة قاضية لمبادرات إيغاد، وأفقدها القدرة على الاستمرار أو دعم مبادرات أخرى فاعلة على الساحة. وكما هو الحال مع الاتحاد الإفريقي، بقيت خارطة الطريق التي أعلنتها "إيغاد" دون نتائج ملموسة.
ورغم تعيين مبعوث خاص (الجنوب سوداني لورانس كوبراندي) في مارس/آذار 2024، لم تتقدم العلاقات بين المنظمة والحكومة السودانية، حيث فشلت الرئاسة الجيبوتية للمنظمة في إثناء الخرطوم عن قرارها بتجميد العضوية. وزاد الطين بلة اقتراح مبعوث المنظمة – للمرة الثانية – بنشر قوات أجنبية داخل السودان في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ما اعتُبر مساسًا بالسيادة السودانية، وساهم في تعميق الهوة بين الجانبين.
ورغم الدعوات المتكررة من إيغاد لوقف إطلاق النار والتحذير من الكارثة الإنسانية، فقد استغرقت وقتًا طويلًا في محاولة عقد لقاء مباشر بين قائد الجيش وقائد قوات الدعم السريع، وكأن هذا اللقاء هو الحل الوحيد، متجاهلة خيارات بديلة ربما كانت أكثر واقعية وفعالية.
<span;><span;>- تقييم عام:
أظهرت أزمة السودان مدى تأثر المنظمتين الإقليميتين – إيغاد والاتحاد الإفريقي – بالتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، وارتباط مواقفهما بمصالح أطراف بعينها، على حساب الدعم الحقيقي لدولة عضو تمر بأزمة عميقة. كما كشفت هذه الأزمة ابتعاد المنظمتين عن مبادئ الوحدة الإفريقية والتزامهما المُفترض بسيادة الدول الأعضاء.
<span;><span;>- خاتمة:
في ظل التعقيدات التي أحاطت باندلاع الصراع في السودان، يمكن اعتبار تمرد قوات الدعم السريع في أبريل/نيسان 2023 تجسيدًا واضحًا لفشل مشروع بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال. فقد أدى غياب مشروع وطني جامع، وتفكك مؤسسات الدولة، إلى خلق ازدواجية في البنية العسكرية، خصوصًا بعد صعود قوات الدعم السريع أعقاب التغيير السياسي الذي حدث في عام 2019، وتحولها إلى قوة موازية للدولة، لها سلطات واسعة ونفوذ في مجالات متعددة. هذا الواقع أنتج ما يمكن وصفه بـ"دولة داخل الدولة"، ما أدى إلى كارثة وطنية بكل المقاييس.
وقد تسبب التمرد في تدمير ممنهج لبُنى الدولة، رغم هشاشتها، وتسبب في معاناة إنسانية هائلة، ونهب واسع طال الممتلكات العامة والخاصة، وأثر بشكل مباشر على معيشة ملايين السودانيين في مختلف الولايات.
إقليميًا، يُثير نجاح أبو ظبي في التأثير على مواقف بعض دول الجوار، ودعمها الفعلي للتمرد، مخاوف حقيقية من احتمال تكرار السيناريو السوداني في دول أخرى تعاني من ضعف مؤسساتي، واحتكار للسلطة، وتفشي الفساد، وغياب القيادة الوطنية الفاعلة.
خلاصة القول: إن الصراع الحالي في السودان، بعد تمرد قوات الدعم السريع لا يهدد فقط بفشل الدولة، بل يُنذر بانهيار الدولة الوطنية نفسها؛ من خلال تفكيك أركان السيادة، وتعطيل القانون، وتفشي الفوضى والجريمة، وليس مجرد تمرد عادي يمكن التسامح تجاهه أو الحوار معه كالمعتاد.
وهذا البُعد الخطير للصراع، هو ما فشلت غالبية الأطراف الإقليمية والدولية في إدراكه، باستثناء قلة من الخبراء والمحللين الذين نبّهوا إلى عمق الأزمة وحِدَّتها.