إعداد: [المركز الإفريقي للاستشارات]
في قلب الصحراء الكبرى، وفي تقاطع هشّ لثلاث دول متأرجحة على حافة الانهيار أو في قلب الصراع، تقف رقعة جغرافية صغيرة – تُعرف اصطلاحًا بـ»المثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا» – لتتحول من منطقة حدودية للتماس بين ثلاث دول محورية إلى بؤرة جيوسياسية مشتعلة، تهدد بإعادة تشكيل خرائط النفوذ في شمال إفريقيا، وتكشف عن ملامح صراع تتداخل فيه طموحات أمراء الحرب، مع حسابات القوى الإقليمية والدولية، ومعادلات الأمن القومي لدول الجوار.
ففي مطلع يونيو 2025 أعلنت القوات المسلحة السودانية سحب قواتها المتواجدة في منطقة المثلث الحدودي لإعادة التموضع؛ حيث سيطرت قوات الدعم السريع على هذه المنطقة الاستراتيجية.
لم تكن سيطرة قوات الدعم السريع على هذا المثلث مجرد تحرك عسكري ظرفي؛ بل كانت لحظة مؤسِسة ضمن مسار طويل من تفكيك الدولة السودانية، وتسليع الجغرافيا، وتحويل التخوم الصحراوية إلى خطوط إمداد، ومنصّات لتصفية الحسابات الإقليمية، ونقاط التقاء بين شبكات التهريب العابر للحدود، والميليشيات المرتبطة بدول، وأجهزة استخباراتية تشتبك من وراء ستار.
فهذا التحرك يمثل نقلة نوعية في تحركات الدعم السريع خلال حربها ضد الدولة السودانية المستمرة منذ أبريل 2023.
منطق الأرض.. جغرافيا بلا دولة:
يقع هذا المثلث عند نقطة التقاء الحدود الجنوبية الشرقية لليبيا، والحدود الغربية لمصر، والشمالية الغربية للسودان. في الظاهر، تبدو هذه المنطقة مقفرة، خالية من المدن أو التجمعات السكانية الكبرى، لكنها في الواقع تمثل شبكة طرق صحراوية شديدة الأهمية، استخدمت منذ سنوات طويلة في تهريب البشر والسلاح والوقود والذهب والمخدرات.
من الكفرة الليبية إلى دارفور السودانية، ومن العوينات المصرية إلى جبال تيبستي في تشاد؛ تشكل هذه المسارات شبكة عنكبوتية يصعب ضبطها أمنيًا. كل من يسيطر على إحدى نقاط هذا الخط يملك مفتاحًا للتحكم في بوابة غير رسمية للهجرة إلى أوروبا، وللإمداد اللوجيستي للجماعات المسلحة في السودان وليبيا، ولإعادة تدوير عوائد التهريب في بنوك وواجهات مدنية في عواصم بعيدة.
لم يكن مفاجئًا أن يتصدر هذا المثلث أجندة التدخلات الإقليمية والدولية مؤخرًا، فالموقع، رغم جغرافيته المنسيّة، إلا أنه يشكل مفترق طرق لصياغة مستقبل الدولة السودانية، ولبسط النفوذ العسكري في ليبيا، ولتحصين العمق الاستراتيجي لمصر.
الدعم السريع والحدود.. من التكتيك إلى الاستراتيجية:
منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع سعت الأخيرة إلى بناء خطوط إمداد موازية بعيدًا عن مناطق سيطرة الجيش. لم تكن سيطرتها على المثلث الحدودي مجرد تقدم ميداني؛ بل مثلت رهانًا استراتيجيًا لتأمين منفذ إلى ليبيا، يُستخدم لتدفق السلاح والوقود، ولمراكمة العائدات غير المشروعة من الذهب وتهريب البشر.
وفي ظل الفشل في السيطرة على الفاشر – التي تعد البوابة الأمنية الأهم في دارفور – اتجهت الميليشيا إلى تثبيت أقدامها في هذه الرقعة الهشة، آملة أن تمنحها هذه السيطرة مزيدًا من أوراق الضغط التفاوضية، وأن تُظهر نفسها كقوة قادرة على بسط السيطرة خارج المركز، وفرض وقائع على الأرض.
لكن هذه السيطرة لم تأتِ من فراغ، ولم تكن خالية من الرعاية الخارجية. فتقارير متعددة أشارت إلى وجود دعم إماراتي مباشر؛ عبر إنشاء خط إمداد بري يمتد من دارفور إلى الجفرة الليبية، ومرورًا بالكفرة؛ فيما أظهرت صور الأقمار الصناعية استخدام القاعدة الجوية الليبية في معطن السارة لنقل الذخائر والوقود لقوات الدعم السريع.
حفتر والدعم السريع.. تحالف المصالح:
يشير هذا التواطؤ إلى معادلة أكثر تعقيدًا. فخليفة حفتر، رجل الشرق الليبي القوي، يجد في التعاون مع الدعم السريع فرصة لتعزيز نفوذه في الجنوب الليبي، ولإقامة شراكة غير معلنة تضمن له استمرار خطوط التهريب، وتوفر له موطئ قدم في النزاع السوداني.
لكن هذا الانخراط لا يخلو من حسابات مزدوجة. فالقاهرة، التي دعمت حفتر طويلًا كحليف في الشرق الليبي، تجد نفسها اليوم في وضع معقد؛ إذ إن تقارب حفتر مع قوات الدعم السريع - والتي تُعد من أبرز التهديدات للأمن القومي المصري من الجهة الجنوبية- يثير قلق صناع القرار في القاهرة؛ خاصة مع التقارير المتزايدة عن استخدام العوينات– الكفرة كخط تهريب نشط قد يُستخدم مستقبلاً ضد المصالح المصرية.
واشنطن وأوروبا.. حين تُرسم الحدود من بعيد:
في هذا السياق المتشابك، لا يمكن تجاهل الحضور الغربي. فالولايات المتحدة، التي أعلنت مؤخرًا - على لسان مسؤولين في الخارجية- عن نيتها إعادة الانخراط الفاعل في الملف السوداني ترى أن الحسم في هذا المثلث سيمثل حلقة مهمة في إعادة هندسة النفوذ في إفريقيا، خاصة بعد نجاحها في التوسط لاتفاق بين رواندا والكونغو.
وبالمثل، تنظر بروكسل بعين القلق إلى سيطرة ميليشيا غير حكومية على مسار حيوي للهجرة غير النظامية من القرن الإفريقي نحو المتوسط. فعلى امتداد سنوات موّلت أوروبا سياسات «احتواء الهجرة في المصدر» ودعمت السودان وليبيا ماليًا واستخباراتيًا لتأمين الحدود، لكنّها – عمليًا – خلقت بيئة مواتية لنشوء كيانات أمنية موازية تُدير هذه العمليات وفق مصالحها الذاتية. فالدعم الأوروبي وعلاقته بالدعم السريع واستخدامه في ملف الهجرة غير الشرعية قديم؛ حيث دعم الاتحاد الأوروبي علناً جهود مكافحة الهجرة غير النظامية (كما اصطلح على التسمية) ويتم دفع الملايين من اليوروهات من أموال دافعي الضرائب الأوروبيين لهذا الغرض. تلك الجهود التي يعرف الاتحاد الأوروبي جيدا أنه يتم تنفيذها من قبل ميليشيا الدعم السريع ، بالرغم من الإنكار القاطع لجميع الأدلة التي تشير لتوجه هذا الدعم لقوات الدعم السريع في حين يعترف بدعمه لجهود السودان في السيطرة على الهجرة عبر ما يسمى بـ (عملية الخرطوم) استفادت الميليشيا من ذلك؛ وهو أحد دوافعها للسيطرة على هذه المنطقة الحيوية ليصنع لنفسه موقعا قويا عبر السيطرة على هذا المعبر المهم في مسار التهريب والهجرة غير الشرعية كملف محوري وأساسي للاتحاد الأوروبي في المنطقة.
حرب الذهب والوقود.. الاقتصاد في خدمة الجغرافيا:
خلف المعركة العسكرية والجيوسياسية، تدور حرب صامتة على الموارد. إذ إنّ المثلث الحدودي لا يمر فقط بخطوط التهريب التقليدية؛ بل يعبر فوق احتياطات هائلة من الذهب في شريط يمتد من شمال دارفور إلى حدود موريتانيا، ويقطع مسارات الكوكايين من أميركا الجنوبية إلى أوروبا، ويصل إلى شبكات تجارة الوقود المدعوم والمخدرات.
وقد وظّفت قوات الدعم السريع هذه الجغرافيا لتعزيز بنيتها المالية، فاعتمدت على تهريب الذهب عبر الكفرة إلى طرابلس ومنها إلى دبي، واستفادت من تواطؤ عناصر في جهاز حفتر الأمني، في مقابل حماية بعض خطوط الإمداد، وضمان عدم تدخل مباشر ضد تحركاتها.
كما تحولت كتيبة «سبل السلام» – وهي مجموعة مسلحة محلية في الكفرة – إلى ذراع تنفيذية لهذه الشبكات، وتحالفت ضمنيًا مع قوات الدعم السريع، لتأمين هذا الخط الذي يشكل شريان حياة للميليشيا في ظل تقدم الجيش السوداني غربًا.
الاقتصاد والمصالح المادية المباشرة تلعب دورا جوهريا ودافعًا أساسيًا لتأمين متنفس اقتصادي لقوات الدعم السريع؛ مما يساعدها على تعزيز قدرتها الاقتصادية، واتخاذ هذا المسار كمتنفس ملائم بعد خسارة الدعم السريع لمساحات المناورة وتأثير العقوبات على القطاع الاقتصادي للدعم السريع.
القاهرة.. بين توازن الردع واستحقاقات الجوار:
من جهة أخرى، تجد مصر نفسها أمام معادلة معقدة. فاستقرار حدودها الجنوبية لا يمكن أن يتحقق في ظل تمدد ميليشيا مسلحة تتلقى دعمًا من قوى إقليمية، وتسيطر على ممرات حدودية قريبة من منشآت حساسة في مثلث العوينات.
ففي الثالث من يوليو الماضي تزامنت زيارة للبرهان إلى القاهرة مع تواجد لوفد بقيادة القائد العسكري حفتر لمناقشة تطورات الأوضاع عقب سيطرة الدعم السريع على منطقة المثلث، واتهام الحكومة السودانية لقوات ليبية في دعم هذا التحرك الذي قامت به قوت الدعم السريع.
هذا الحراك المصري الأخير باتجاه البرهان، وتكثيف اللقاءات مع حفتر، يعكسان محاولة لإعادة رسم التوازنات في تلك المنطقة. فالقاهرة لا تريد خسارة حفتر؛ لكنّها في ذات الوقت لن تقبل بأن تتحول حدودها الجنوبية إلى ممر غير آمن.
وقد أظهرت القاهرة إشارات متكررة بضرورة التنسيق الاستخباراتي مع الجيش السوداني، وتفعيل آليات الاستشعار المبكر، تحسبًا لأي تصعيد مفاجئ قد يُوظَّف فيه المثلث كنقطة انطلاق لعمليات تهريب أو تسلل مسلح يمكن أن يهدد الحدود المشتركة والأمن القومي؛ بعد خلط التوازنات في هذه المنطقة.
الاحتمالات القادمة.. ثلاثة سيناريوهات متداخلة:
أمام هذا المشهد يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات رئيسة:
السيناريو الأول: استمرار الوضع الحالي، مع بقاء المثلث تحت سيطرة الدعم السريع، وتحوله إلى قاعدة خلفية للتمويل والإمداد. وفي هذا السيناريو ستُستخدم المنطقة كمنصة غير رسمية لتحالف غير معلن بين الإمارات وحفتر والدعم السريع؛ مما يزيد الضغوط على الجيش السوداني، ويُعمّق القطيعة بين الخرطوم وبنغازي والقاهرة.
السيناريو الثاني: تصعيد مصري مباشر أو عبر وسطاء، قد يشمل ضغوطًا على حفتر، أو عمليات نوعية على الحدود، أو حتى دعم غير مباشر للجيش السوداني لاستعادة المثلث. وهذا السيناريو سيؤدي إلى انفجار الوضع في المنطقة، وقد يُخرج الخلافات بين القاهرة وأبوظبي إلى السطح.
السيناريو الثالث: تدخل دولي عبر مسار تفاوضي تُعاد فيه صياغة هندسة السيطرة الحدودية؛ بما يضمن تفكيك السيطرة الأحادية للميليشيا، ويؤسس لنظام رقابة مشترك يُشرف عليه الاتحاد الإفريقي أو الأمم المتحدة. وهذا السيناريو ما يزال بعيدًا في ظل انعدام الثقة بين الأطراف؛ لكنه يظل احتمالًا مطروحًا إذا تفاقم التهديد الحدودي.
دعم خارجي أم مشروع تفكيك؟
في قلب هذا الصراع يبقى السؤال الأبرز: هل ما يجري في المثلث الحدودي هو تعبير عن مشروع «تفكيك ممنهج» للدولة السودانية؟ أم أنّه مجرد ارتداد لحرب أهلية خرجت عن السيطرة؟
بعض التحليلات تشير إلى أنّ الدعم الخارجي لقوات الدعم السريع – خاصة من أبوظبي – لا يهدف فقط إلى الحفاظ على «حليف ميداني» بل يتعدى ذلك إلى خلق واقع استراتيجي جديد يسمح بترسيخ نفوذ بعيد المدى في منطقة ذات أهمية حاسمة للطاقة والممرات التجارية.
كما أنّ رغبة بعض القوى الغربية في وجود طرف «غير حكومي» يمكن التفاوض معه بعيدًا عن الجيوش التقليدية تمثل تحوّلاً في فهم أدوات النفوذ، وهو ما ظهر في تقارير أوروبية وأمريكية تدعو إلى إشراك الدعم السريع في أي تسوية سياسية مستقبلية.
المقاومة البنيوية.. الجيش والدولة والمجتمع:
لكن هذا المشروع يواجه مقاومة داخلية لا يُستهان بها؛ فالمؤسسة العسكرية السودانية رغم الضربات لا تزال تحتفظ بشرعية الدفاع عن الحدود. ومع عودة المدن الكبرى إلى يد الجيش، وعودة السيطرة على معظم الإقليم الأوسط فإنّ تحركات الدعم السريع في الأطراف - مهما اتسعت - تظل من دون عمق ديمغرافي حقيقي.
في المقابل، خسرت الميليشيا العمق الشعبي بسبب الجرائم البشعة التى قامت بها خلال الحرب. وصار الخطاب الشعبي الغالب يقف ضد شرعنة الميليشيا، ويرى أنّ ما تقوم به هو تمرد على الدولة.
هذا التيار الذي يعبّر عن طيف واسع من السودانيين، يرفض التدخلات الأجنبية، ويُطالب بمسار سياسي يقوم على وحدة الأرض، واحتكار الدولة للعنف الشرعي.
كما أنّ هذا الصوت الغالب يري في الدعم السريع تهديدا وجويا للدولة السودانية، حيث تقر مجموعات كبيرة بأحقية القوات السودانية المسلحة في حماية الحدود، ويُدرك أنّ أي تفكك للمؤسسة العسكرية سيقود إلى «دولة خالية الوفاض»، بلا مركز ولا قرار.
خاتمة.. المثلث كمختبر لمستقبل الدولة:
في النهاية تكشف السيطرة على المثلث الحدودي عن لحظة فارقة في الصراع السوداني، بل وفي مستقبل الإقليم ككل. فالمنطقة رغم جغرافيتها القاسية إلا أنّها باتت بمثابة مرآة تعكس طبيعة العلاقات الإقليمية، وتكشف خريطة التدخلات، وتُظهر الفارق بين الدولة والميليشيا.
إنّها ليست فقط نقطة تماس حدودي، بل معمل مفتوح لإعادة تعريف السيادة، وترسيم الفاعلين، وتحديد من له الحق في تمثيل السودان، ومن يملك مفاتيح الجغرافيا.
وبينما تتقاطع مصالح الدول الكبرى في هذه الرقعة الصغيرة؛ يظل الحسم الحقيقي رهينا بقدرة السودانيين - جيشًا ومجتمعًا وقوى سياسية جديدة - على إعادة بناء الدولة، وتحرير الجغرافيا من سطوة السلاح غير الشرعي، واستعادة الحدود من أيدي الوكلاء.