قراءة تحليلية حول المكوّن العربي وخيارات كسر دائرة الانتقام
بقلم: د. عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين – مدير برنامج شرق إفريقيا والسودان في فوكس السويد
باحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب
جبال الألب – النمسا | يوليو 2025
"إلى أهل دارفور بكل مكوّناتهم، إلى الذين ما زالوا يؤمنون أن التعايش أقوى من الحرب.. إلى الضحايا الذين رووا بدمائهم أرضًا لم تبخل يومًا بالعطاء.. إلى الأمل الذي لا ينطفئ، وإلى كل من يواصل الطريق بصدق من أجل وطن يتّسع للجميع".
لطالما ظلّت القبائل العربية في دارفور أحد الأضلاع الجوهرية في معادلة الحرب والسلم على مدى عقود.
لكنها اليوم تجد نفسها أمام سؤال لا يمكن الهروب منه: هل يمكن لهذه المجتمعات أن تنجو من لعنة الوصم الجماعي بعد هزيمة مشروع الدعم السريع عسكريًا؟.
وهل يكفي الانسحاب من خطوط القتال والبيانات الرمزية لتفكيك صورة "الحاضنة الأبدية" لميليشيا تسببت في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في الإقليم؟.
لفهم المشهد، لا بد من الرجوع إلى الجذور. فمنذ نشأته؛ تأسس الدعم السريع كذراع حدودي في عهد نظام البشير مطلع الألفية، مستندًا إلى حرس الحدود وبعض وحدات الدفاع الشعبي. ومع تصاعد التهميش وضعف التنمية في مناطق الرعي جرى استقطاب آلاف الشباب من بطون قبائل عربية كانت ترى في الارتباط بالميليشيا فرصة للنجاة من الفقر، حتى لو كان الثمن دماء أبناء الإقليم.
ومع تعقد الحرب الأهلية، تحوّل الدعم السريع إلى مشروع ميليشياوي شبه دولة، يسيطر على مساحات واسعة من تجارة الذهب والتهريب العابر للحدود، ويتغلغل في المدن عبر شبكات قبلية ودعم خارجي معروف.
بحسب تقرير Crisis Group Darfur’s Fragmented Future (مايو–يونيو 2025)، استعاد الجيش السوداني السيطرة الكاملة على العاصمة الخرطوم وأجزاء من شمال كردفان، فيما اقتصر وجوده العسكري في دارفور على مدينة الفاشر فقط، وسط حصار متقطع. أما وسط وغرب وجنوب دارفور فما تزال فعليًا تحت سيطرة فلول الدعم السريع وشبكات التهريب التي تصل حتى حدود تشاد وإفريقيا الوسطى.
تقديرات Small Arms Survey تشير إلى أن عدد مقاتلي الدعم السريع النشطين يُقدّر بين 40 و45 ألف عنصر، بينما يقدَّر عدد السكان من القبائل العربية في دارفور ما بين 3.5 إلى 4 ملايين نسمة — أي نحو 30–40% من سكان الإقليم. وتشير أبحاث ميدانية إلى أن نحو 15–20 ألف أسرة فقط كانت لها صلات مباشرة بتمويل الميليشيا عبر الذهب أو شبكات التهريب، بينما ظلّت الأغلبية الكبرى - أكثر من 70% - خارج هذه الحلقة الدموية، معلّقة بين الخوف والصمت والوصمة.
ولا يمكن فصل "لعنة الوصم" عن الجرائم الميدانية التي ارتكبها الدعم السريع. فقد تحوّل من حرس حدود إلى ميليشيا منظّمة، استثمرت الانتماء القبلي كخزان بشري للقتال وضمان حماية خطوط الإمداد والتهريب. ومع توسّعه في مدن وقرى دارفور، وُثّقت عمليات قتل ونهب وتهجير قسري واسعة، وفق تقارير أممية وشهادات محلية، وهو ما عمّق صورة أنّ بعض بطون القبائل العربية كانت ظهيرًا لهذه الانتهاكات في نظر ضحاياها.
ورغم صدور بيانات من بعض المكوّنات - مثل بيان أبناء الرزيقات (يناير 2024): "نرفض الزجّ باسم قبائلنا في مشاريع حرب لن تجلب إلا العار والأحقاد".- إلا أنّ نزيف خطاب الكراهية لم يتوقّف. حيث تُظهر Civic Space Sudan أن أكثر من 1,200 منشور شهريًا يحرض ضد القبائل العربية، لا سيما عبر فيسبوك وواتساب، مع توسع كبير في استخدام TikTok وTelegram لنشر مقاطع مجتزأة من سياقها لإبقاء ذاكرة الانتقام حيّة. استطلاع ميداني على شباب في الفاشر ونيالا والجنينة كشف أنّ 72% منهم يتعرّضون لمحتوى تحريضي بانتظام، وهو ما يغذّي دورة جديدة من الشك والخوف.
وبينما يُحمِّل بعضهم القبائل كلها تهمة التواطؤ، تظهر شهادات إنسانية نادرة لأسر عربية لم تنخرط قط في أي معركة، بل عاشت هي الأخرى انتهاكات انتقاميّة على يد جماعات مسلّحة محلية. وتقول إحدى الأمهات النازحات: "لم نحمل سلاحًا أبدًا، لكنّهم أحرقوا منازلنا بدعوى أننا حاضنة للدعم السريع". هذه الشهادات تكشف هشاشة المعادلة: أبرياء صاروا هدفًا للثأر الجماعي، لا ذنب لهم سوى رابطة الدم.
أمام هذا المشهد، تظهر ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل القبائل العربية في دارفور:
- السيناريو الأول: الانكفاء والعزلة:
قد تختار بعض البطون الانكفاء في مناطق نفوذها التقليدية خوفًا من الثأر، مستفيدة من التضاريس الوعرة وخطوط التهريب القديمة. التقديرات الميدانية تشير إلى أنّ 10–15 ألف شاب قد يُعاد توظيفهم في شبكات اقتصاد ظل عابر للحدود، بحجم قد يتجاوز 50–70 مليون دولار سنويًا إن تُرِك دون رقابة، ما يخلق قاعدة جديدة لاقتصاد الحرب.
- السيناريو الثاني: الاندماج الانتقائي
قد تتمكّن بعض القيادات الأهلية من إعادة الشباب إلى حضن الدولة عبر برامج "نزع سلاح" شكلية أو تسويات قبلية محدودة، دون الاعتراف الكامل بالجرائم؛ لكن هذا السيناريو سيظل هشًا إن لم يترافق مع تمويل حقيقي لإعادة دمج ما لا يقل عن 150–200 ألف فرد بين مقاتلين وأسرهم.
وتشير دراسات DDR (Disarmament, Demobilization and Reintegration) إلى أن كلفة إعادة دمج الفرد قد تصل إلى 500–1000 دولار؛ ما يعني حاجة إلى 100–120 مليون دولار كحد أدنى، وهو مبلغ ليس سهلاً في ظل اقتصاد السودان المنهك. ففي سيراليون مثلًا؛ استغرق تفكيك شبكات المرتزقة ست سنوات بتمويل قارَب 150 مليون دولار، لضمان بدائل حقيقية لمن ترك السلاح.
- السيناريو الثالث: المصالحة المنظمة:
وهو الأصعب والأكثر استدامة. وفي هذا المسار تصبح المصارحة ضرورة لا خيارًا: اعتراف حقيقي بجرائم الميليشيا، لجان عدالة انتقالية مستقلة، حماية موثوقة لمن يتخلّى عن السلاح، وتعويض مجتمعي عادل يطوي صفحة الثأر.
إنّ تجربة رواندا وجنوب إفريقيا توضح أنّ وصمة العار لا تزول بالشعارات ولا بلجان صلح عاجلة، بل بمسار طويل من المكاشفة والحماية والعدالة. فاتفاق جوبا للسلام 2020 يمكن أن يكون عبرة: حين بقي على الورق بلا إرادة سياسية وتمويل كافٍ، انهار سريعًا أمام أعين الجميع.
إنّ أخطر ما يهدد هذه السيناريوهات جميعًا هو الفراغ الأمني؛ فمع تراجع قوة الدولة في بعض مناطق دارفور ظهرت بالفعل مؤشرات على مجموعات تهريب مخدرات وسلاح صغيرة عابرة للحدود، قد تتحوّل لاحقًا إلى ميليشيات مرنة توظّف الشباب المحبطين. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أنّ حجم السوق السوداء للذهب والوقود في المثلث الحدودي يمكن أن يتجاوز 100 مليون دولار سنويًا إذا لم توضع خطط عاجلة لتجفيف موارده.
ولا تكتمل المقارنة دون درس كولومبيا وإفريقيا الوسطى؛ إذ تحوّلت جماعات مسلّحة هناك إلى شبكات تهريب عابرة للقارات؛ بسبب إهمال ملف الإدماج الحقيقي.
إنّ دروس هؤلاء تقول بوضوح: إذا لم تُربَط خطط العدالة بخطط اقتصادية بديلة حقيقية؛ فسيعود العنف في هيئة جديدة.
كما تقول أدبيات العدالة الانتقالية: "العدالة ليست انتقامًا، بل جسر لإنقاذ الأجيال من لعنة الثأر".
ويبقى الأمل في أنّ المجتمع المدني وشباب القبائل العربية يمكن أن يكونوا هم الجسر الذي يفكّك دوائر الخوف ويعيد الثقة مع محيطهم.
ختامًا، إنّ هزيمة الدعم السريع عسكريًا ليست سوى خطوة أولى؛ فإنقاذ القبائل العربية من لعنة الوصم يحتاج إلى شجاعة اعتراف، وضمانات حماية، وخطة طويلة الأمد تحوّل مناطق الرعي من خزان دم لمشاريع الحرب إلى خزان تعايش وتنمية. التاريخ لن يغفر حين يُهدَر التنوّع لصالح مشاريع السلاح. فهل يملك صانعو القرار المحليون والشركاء الدوليون الشجاعة لإنقاذ جيل جديد من حِمل إرثٍ لم يصنعه؟
____________________
تنويه: الأرقام الواردة في هذا التحليل تقديرات تقريبية مستقاة من تقارير وأبحاث ميدانية، وتُستخدم لأغراض التحليل ولا تُعدّ إحصاءات رسمية.
جميع الحقوق محفوظة ©️ د. عبدالناصر سلم حامد – لا يُعاد نشر هذا المقال إلا بالإشارة الصريحة إلى المصدر.