المركز الأفريقي للاستشارات African Center for Consultancy

اصدارات دورية

جنوب السودان بعد عقد من الانفصال.. أين الوطن وأين المواطن؟

09/08/2025
 جنوب السودان بعد عقد من الانفصال.. أين الوطن وأين المواطن؟

اتيم سايمون
عندما وقف الرئيس سلفاكير ميارديت على منصة الاحتفال في ساحة الحرية بجوبا يوم 9 يوليو 2011م، مخاطباً الجماهير التي احتشدت بفرح غامر، كان الأمل يملأ القلوب. تحدث الرئيس بلغة موحدة عن وطن جديد ينعم بالحرية والعدالة والرخاء، وعن شعب عانى طويلاً من الحرب والتهميش، لكنه على أعتاب فجر جديد.
كان الاستقلال بالنسبة لكثيرين لحظة ولادة لوطن طال انتظاره؛ وطن يملك الموارد الطبيعية الغنية والفرصة التاريخية لصناعة نموذج إفريقي مختلف. لكن وبعد عقد من الزمان، تهاوت تلك الأحلام، وتبددت الآمال، وبقي المواطن الجنوب سوداني يتساءل: أين الوطن وإلى أين ذهبت تلك الوعود الكبيرة؟
لقد شكّل استقلال دولة جنوب السودان عام 2011 لحظة تاريخية فارقة، حيث أصبحت الدولة رقم 193 في سجل الأمم المتحدة.
تفاؤل المواطن الجنوبي لم يكن مجرد عاطفة؛ بل كان مدفوعاً بواقع جغرافي غني بالنفط والمياه والأراضي الخصبة والموارد الطبيعية.
لكن، ما لبثت تلك الأحلام أن اصطدمت بجدار الطموحات الضيقة للنخبة الحاكمة؛ وعلى رأسها الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي ورثت الدولة دون مشروع واضح لبنائها.
فبحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2023، تحتل جنوب السودان المرتبة رقم 180 من أصل 180 دولة في مؤشر الفساد، الأمر الذي يعكس حجم الفشل البنيوي في إدارة موارد الدولة وتحقيق تطلعات المواطنين الذين سرعان ما تسربت أحلامهم الكبيرة، والتي كانت مشفوعة بنضالات تاريخية طويلة وشاقة.
فشلت الحركة الشعبية - الحزب الحاكم في جنوب السودان والذي خاض حرب التحرير الطويلة والتي توجت بنيل الاستقلال- في التحول من حركة تمرد إلى حزب سياسي ديمقراطي يمتلك رؤية لبناء الدولة. فعِوضاً عن مشروع وطني شامل تحولت الحركة إلى آلية لتوزيع الغنائم السياسية والاقتصادية، مركزة جهودها على تنفيذ ما تبقى من بنود اتفاق السلام الشامل لعام 2005، لا لبناء مؤسسات دولة حديثة.
وسادت ثقافة المحسوبية والقبلية، فباتت التعيينات في المناصب تتم وفقاً للولاء القبلي والمناطقي لا على أساس الكفاءة. فوفقاً لدراسة أعدها معهد «سودان ريسيرش قروب» فإن أكثر من 80% من الوظائف العليا في الحكومة يتم توزيعها على أساس الانتماء السياسي أو القبلي، مما أدى إلى تآكل مؤسسات الدولة وغياب فاعليتها.
لقد أدى غياب التصور الوطني وتفشي الصراعات داخل أروقة الحكم إلى اندلاع الحرب الأهلية في ديسمبر 2013؛ عندما احتدم القتال بين قوات موالية للرئيس سلفاكير وأخرى موالية لنائبه السابق رياك مشار. هذه الحرب لم تكن مجرد خلاف سياسي، بل كانت إعادة إنتاج للنزاع القبلي في ثوب سياسي جديد. وقُتل خلالها ما يقدر بـ400 ألف شخص، ونزح جراء هذه الحرب أكثر من 4 ملايين داخل البلاد وخارجها - بحسب تقارير الأمم المتحدة- وتم في تلك الحرب الأهلية الأولى في جنوب السودان توجيه معظم الموارد لتمويل العمليات العسكرية وتحصين المواقف السياسية والعسكرية؛ مما عمّق الانقسام الوطني.
لقد كانت للحرب الأهلية تداعيات كارثية على عملية التنمية. ففي حين خصصت معظم ميزانية الدولة للأمن والجيش، تراجع الإنفاق على التعليم والصحة والبنية التحتية إلى أدنى مستوياته. ووفقاً لتقرير البنك الدولي (2022)، فإنّ 82% من سكان جنوب السودان يعيشون تحت خط الفقر، في حين يعاني أكثر من 7.1 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي. كما فشل النظام السياسي في بناء مؤسسات فاعلة أو في تنظيم انتخابات، مما أدى إلى استمرار حالة الحكم الانتقالي الهش وغياب المحاسبة والمساءلة، وفتح الباب أمام تمردات جديدة تطالب بالمشاركة في السلطة أو الحكم الذاتي؛ كما هو الحال مع حركة الجبهة المتحدة لتحرير جنوب السودان وعدد من الفصائل المسلحة الأخرى.
تعددت اتفاقيات السلام منذ العام 2016 وحتى اتفاقية السلام المنشطة في 2018، لكن أياً منها لم ينجح في تحقيق سلام دائم. فبدلاً من ذلك تم استخدام هذه الاتفاقيات كوسيلة لإعادة تقاسم السلطة بين النخب، بينما بقي المواطن خارج دائرة القرار؛ يعاني العطالة، والجوع، وانعدام الأمن.
وقد أظهرت دراسة لمنظمة الإغاثة الدولية في العام 2023 أنّ 68% من المواطنين لا يثقون في قدرة الحكومة على توفير الخدمات الأساسية أو ضمان الأمن.
هذا الواقع ولّد شعوراً عميقاً بالإحباط والسخط الشعبي، خاصة بين الشباب الذين يشكلون أكثر من 70% من السكان، لكنهم يعيشون في ظروف بائسة بلا أمل في التغيير.
اتخذت السلطة الحاكمة في جنوب السودان من «شراء السلام» ذريعة لتبرير التوسع في أجهزة الحكم، فتم تشكيل حكومة تضم خمسة نواب للرئيس، وبرلمان يتكون من نحو 600 عضو، في دولة يقل ناتجها القومي عن 4 مليارات دولار. وقد أدى هذا التوسع غير المبرر إلى استنزاف الموارد في الصرف على الامتيازات الحكومية، بينما تُترك المدارس والمستشفيات دون تمويلٍ كافٍ.
وبلغت نسبة الإنفاق الحكومي على التعليم أقل من 2% من الميزانية العامة، في حين يلتهم الصرف الأمني والسياسي أكثر من 50% من الإنفاق العام؛ بحسب تقارير صادرة عن صندوق النقد الدولي للعام 2023.
ونتيجة لهذا الفشل الشامل تراجع تصنيف دولة جنوب السودان في معظم المؤشرات الدولية. فهي تتصدر مؤشرات الدول الأكثر هشاشة، والأعلى فساداً، والأدنى في مؤشرات التنمية البشرية. ووفقاً لمؤشر الدول الهشة للعام 2024، تحتل جنوب السودان المرتبة الأولى عالمياً كأسوأ دولة من حيث الحوكمة وغياب القانون. كما أصبح العنف الأهلي خارجاً عن السيطرة؛ إذ تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 70% من المدنيين يمتلكون أسلحة نارية، بينما تفقد الدولة السيطرة على أجزاء واسعة من أراضيها لصالح الميليشيات المسلحة. وفي هذا السياق، لم يعد المواطن الجنوبي ينظر إلى الاستقلال بوصفه إنجازاً سيادياً، بل مأساة مستمرة؛ فقد تحولت الحرية التي كان يأمل فيها إلى عبء يومي من الجوع والخوف والتشرد.
رغم هذا المشهد القاتم، فإنّ ثمة مؤشرات - ولو خافتة - على إمكانية تجاوز الأزمة؛ إذا ما توفرت الإرادة السياسية والرؤية الوطنية التي تتجاوز القبلية والولاءات الضيقة. فجنوب السودان لا يزال يملك مقومات بناء دولة مزدهرة بمواردها الطبيعية، وشعبها الشاب، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي. لكن تحقيق هذا يتطلب الاعتراف بفشل التجربة الراهنة، ووضع حد لثقافة تقاسم السلطة على أساس الولاءات، وبناء مؤسسات شرعية من خلال انتخابات شفافة، وفتح المجال أمام قوى المجتمع المدني والشباب للمشاركة في إعادة تعريف مفهوم «الوطن» بما يتجاوز رمزية الاستقلال إلى مضمون الدولة الحديثة.
هذا ومع اقتراب موعد نهاية الفترة الانتقالية في العام 2025، تتصاعد المخاوف داخلياً وإقليمياً من انزلاق جنوب السودان مجدداً إلى دورة جديدة من العنف وعدم الاستقرار. فبدلاً من التحضير لانتخابات حرة ونزيهة، دخلت البلاد في مرحلة من التوتر السياسي والأمني، بعد قيام الحكومة باعتقال زعيم المعارضة المسلحة ونائب الرئيس، الدكتور رياك مشار، وعدد من وزرائه؛ في خطوة وُصفت بأنّها ضربة للعملية السلمية وتحدٍ صارخ لاتفاق السلام المنشط لعام 2018. وفي الوقت ذاته، شرع الرئيس سلفاكير في تنفيذ تغييرات واسعة داخل الحزب الحاكم والحكومة، طالت عدداً من القيادات التاريخية للحركة الشعبية، مما أثار موجة من التململ داخل صفوفها، وسط غياب أي حوار وطني شامل أو مسار سياسي توافقي.
هذه التطورات تعكس هشاشة المرحلة الانتقالية، التي كان يُفترض أن تمهد لبناء الثقة بين الفرقاء وتأسيس نظام سياسي شرعي. لكنها الآن تواجه خطر الانهيار الكامل إذا لم تتم معالجة جذور الأزمة؛ وفي مقدمتها غياب الإرادة السياسية، وتهميش قوى المعارضة والمجتمع المدني، والتضييق على الحريات.
وفي ظل هذا المشهد المأزوم، يبقى السؤال قائماً: هل يستطيع جنوب السودان أن يخرج من هذا النفق مجددا، من خلال العمل على بناء دولة تحترم التعدد وتُدار على أساس القانون والمؤسسات؟ أم أنها ستكون مقبلة على مرحلة أخرى من تجديد الأوجاع، وتكرار مأساة التمزق والاحتراب الداخلي؟ إنّ الإجابة عن هذا السؤال ستعتمد ليس فقط على سلوك النخب الحاكمة؛ بل على قدرة المجتمع الجنوبي - بنخبه وشبابه ونسائه ومثقفيه - على تجاوز الانقسامات وصناعة طريق ثالث، ينقل الجنوب من دولة الأزمة إلى دولة المواطنة والكرامة والعدالة.
والإجابة البسيطة عن تلك التساؤلات مجتمعة هي: إنّ التجربة السياسية لجنوب السودان منذ الاستقلال تكشف أنّ الرهان على بناء الدولة لم يكن متكئًا على مقومات وطنية شاملة، بل انحصر في ترتيبات نخبوية ضيقة تجاهلت الحاجة إلى معالجة القضايا الهيكلية التي تمس جوهر العقد الاجتماعي. فقد تم تجاهل البعد الثقافي والهويوي في مجتمع تعددي يضم أكثر من 60 مجموعة إثنية، كما لم يتم تطوير رؤية واضحة لإدارة التنوع واللامركزية، مما أسهم في تأجيج النزاعات المحلية واستدامة الانقسامات.
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ بناء الدولة في جنوب السودان افتقر إلى بعد اقتصادي تنموي مستدام. إذ ظلت الدولة معتمدة كليًا على عائدات النفط، دون تنويع اقتصادي حقيقي أو تطوير للزراعة والبنية التحتية، مما جعلها عرضة للانهيار مع كل أزمة سياسية أو تراجع في أسعار النفط.
كما تم إهمال قطاع التعليم، وتمكين الشباب، والمشاركة المجتمعية؛ وهي ركائز أساسية لأي مشروع وطني يُراد له الديمومة.
في المقابل، بقي المجتمع المدني والقوى الشبابية والنسائية على هامش العملية السياسية، ولم يتم إشراكهم بفاعلية في عمليات صناعة القرار، أو في التفاوض حول مستقبل البلاد، رغم أنهم من الفاعلين الأساسيين في عمليات التعافي المجتمعي وحفظ النسيج الاجتماعي.
ومع غياب آليات فعّالة للعدالة الانتقالية والمحاسبة فإن الإفلات من العقاب بات قاعدة لا استثناء؛ الأمر الذي عمّق من جراحات الحرب، وأضعف فرص المصالحة الوطنية الحقيقية.
إنّ تجاوز هذه الإخفاقات يتطلب تحولًا جذريًا في الرؤية السياسية نحو تبني مشروع وطني جامع، يعيد الاعتبار لفكرة «المواطنة» كأساس للانتماء والحقوق، ويضع أسسًا عادلة لبناء مؤسسات قادرة على تجاوز الانقسام، وتوسيع قاعدة المشاركة، وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة من الشفافية، والعدالة، والتمكين المجتمعي على المستوى القاعدي.
فعلي الرغم من قسوة التجربة التي مرّ بها جنوب السودان خلال العقد الأول من استقلاله إلا أنّ الأمل في المستقبل لا يزال ممكنًا؛ شرط توفر الإرادة السياسية والتغيير الجوهري في فلسفة الحكم وآليات إدارة الدولة. فالمواطن الجنوبي، الذي دفع ثمناً باهظاً من أمنه وكرامته وحقه في التنمية ما يزال يتطلع إلى وطن تتجسد فيه العدالة، والمساواة، والسلام الحقيقي لا المؤقت.
غير أنّ هذا المستقبل لن يُمنح؛ بل يُنتزع عبر إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس جديد؛ قوامه المساءلة، وشفافية إدارة الموارد، وبناء مؤسسات مدنية قادرة على تجاوز منطق الغنائم والمحاصصة.
ويكمن مفتاح ذلك في خلق عقد اجتماعي جديد يُعيد الاعتبار للمواطنة باعتبارها رابطة حقوق وواجبات؛ لا مجرد انتماء إثني أو جهوي.
كما أنّ التحول الحقيقي لن يتحقق دون فتح المجال العام أمام الفاعلين من خارج منظومة السلطة التقليدية؛ وخاصة النساء، والشباب، والمجتمع المدني، وتمكينهم من المشاركة في صياغة السياسات، ورسم مسارات المستقبل.
ولعلّ التحضير لنهاية الفترة الانتقالية في عام 2025 يمثّل فرصة أخيرة لإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة، إذا ما تمّ التعاطي مع هذا التحول كاستحقاق وطني شامل، لا مجرد إعادة توزيع للسلطة بين أطراف النزاع.
إنّ المعضلة ليست فقط في كثرة التحديات، بل في ضآلة الطموح الرسمي لتجاوزها. ومع ذلك، فإن جنوب السودان لا يزال يمتلك من الموارد، والتجارب، والكفاءات ما يكفي لصناعة غدٍ مختلف؛ إذا ما قُدّمت مصلحة الوطن على حساب مصالح النخب، وارتفع صوت المواطن فوق ضجيج البندقيّة.

آفريكا فُوْكَس - العدد (11) - أغسطس2025 م