إعداد: المركز الإفريقي للاستشارات
________________________________________
مقدمة: التوسّع الإماراتي في إفريقيا.. بين الطموح والسيطرة
شهدت العقود الأخيرة تحوّلاً جذرياً في بنية السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث خرجت أبوظبي من عباءة الدور الخليجي التقليدي، وانتقلت إلى ساحة الفعل السياسي الإقليمي والدولي، مدفوعةً بمزيج من الطموح الأمني، والرغبة في تنويع مصادر النفوذ، وتحقيق موقع متقدم في معادلات ما بعد الربيع العربي. فبينما كانت تكتفي سابقًا بالتحرك ضمن أطر التنسيق الخليجي أو الشراكة مع القوى الكبرى، تبنّت منذ 2011 مقاربة هجومية تتأسس على مبدأ «ملء الفراغ» حيث تسعى لتثبيت أذرعها في الدول التي شهدت اضطرابات سياسية أو حروب أهلية، خاصةً في اليمن وليبيا والصومال والسودان.
هذا التحول جاء في سياق دولي مناسب للإمارات؛ فتراجع الدور الأميركي التقليدي في الإشراف على التوازنات الإقليمية، وانكفاء الاتحاد الأوروبي على أزماته الداخلية، وتضعضع القوى العربية المركزية، فتح الباب واسعًا أمام قوى إقليمية طامحة مثل الإمارات لتوسيع دائرة نفوذها؛ مدفوعة بتحالفاتها الجديدة مع إسرائيل، وعلاقاتها المتشابكة مع شبكات المصالح الغربية، وثرائها المالي الكبير.
في هذا السياق، برزت إفريقيا، وخاصة منطقة القرن الأفريقي وحوض البحر الأحمر؛ كأحد الأقاليم الأكثر حساسية ضمن الاستراتيجية الإماراتية. فمن الناحية الاقتصادية تمثل إفريقيا موردًا ضخمًا للطاقة والمعادن والأراضي الزراعية، ومن الناحية الأمنية تُعدّ هذه المنطقة مفتاحًا لطرق التجارة والملاحة الدولية؛ خاصة عبر ممر باب المندب وقناة السويس، وهو ما يجعلها هدفًا محوريًا لأي دولة تسعى لتثبيت نفوذ استراتيجي مستدام.
لم تكن الإمارات استثناءً من هذا المنطق، لكنها سعت لتطبيقه بشكل أكثر جذرية، عبر تأسيس قواعد عسكرية، والاستحواذ على الموانئ، وتمويل شبكات سياسية وأمنية محلية تدين لها بالولاء.
السودان، في قلب هذا الإقليم المضطرب احتل موقعًا مركزيًا في الخارطة الذهنية للاستراتيجية الإماراتية. فهو دولة ذات موقع جغرافي فريد، يشرف على البحر الأحمر ويقع عند مفترق طرق بين شمال أفريقيا وعمقها الصحراوي من جهة، وبين منطقة الساحل والقرن الأفريقي من جهة أخرى. كما أن السودان، بإمكاناته الزراعية الضخمة، واحتياطات الذهب والثروات المعدنية، وموارده البشرية الكبيرة، يشكّل هدفًا مغريًا لأي قوة تسعى لتأمين أمنها الغذائي وتحقيق استقلالها الاقتصادي بعيدًا عن التقلبات العالمية.
لكن الأهم من كل ذلك أن السودان، بعد ثورة ديسمبر 2018، دخل مرحلة انتقالية هشة، فتحت فيه شروخ النظام السابق، وخلخلت توازناته العسكرية والمدنية، وأظهرت هشاشة مؤسساته الرسمية؛ مما جعله بيئة خصبة للتدخلات الخارجية. أدركت الإمارات مبكرًا أن السودان ليس فقط «فرصة استثمارية» كما تروج له بعض مراكز الدراسات الغربية، بل هو كذلك نقطة ارتكاز أمنية وسياسية يمكن من خلالها تطويق إفريقيا، وتحجيم القوى الوطنية الصاعدة التي تهدد نماذج الحكم بالوكالة التي تعمل أبوظبي على تصديرها.
ولذلك، لم يكن تدخل الإمارات في السودان وليد اللحظة، ولا مجرد رد فعل على الثورة أو الحرب، بل هو امتداد لتخطيط استراتيجي طويل الأمد بدأ منذ عهد البشير، حين موّلت أبوظبي صفقات سياسية واقتصادية عززت نفوذها في مؤسسات الدولة السودانية، وشجّعت على صعود قوى عسكرية موازية مثل «قوات الدعم السريع»، كأدوات بديلة للجيش الرسمي، وأكثر طواعية في تنفيذ السياسات الإقليمية.
هذه المرحلة الأولى من النفوذ الإماراتي كانت قائمة على ما يمكن تسميته بـ»السياسة الناعمة»، التي تعتمد على تقديم الدعم المالي والمساعدات الإنسانية والتبادل التجاري والاستثماري، لكنها كانت تخفي مشروعًا أعمق يسعى لتفكيك الدولة السودانية من الداخل، وإعادة تشكيل نخبتها الحاكمة بما يتوافق مع الرؤية الإماراتية.
ما يجري في السودان اليوم، من حرب طاحنة وتفكك مؤسسي، ليس مجرد نتيجة لعوامل داخلية، بل هو، في جوهره، جزء من سلسلة طويلة من التدخلات الخارجية التي تنفذها الإمارات ضمن مشروعها التوسعي، الذي يهدف إلى إعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة بأدوات معقدة، تبدأ بالدبلوماسية والتمويل، وتمر بشراء النخب وبناء الجيوش الموازية، ولا تنتهي بالعدوان المباشر وتفكيك الدولة عبر الوكلاء المحليين. وفي هذا الإطار، تبدو الحرب السودانية الحالية نقطة مفصلية في هذا المشروع، تمثل «نقلة نوعية» في مسار التوسع الإماراتي، تتجاوز فكرة النفوذ إلى مشروع إعادة هندسة الدولة والمجتمع السوداني بما يخدم أجندة إقليمية لا تمتّ بصلة لإرادة الشعب السوداني.
أولاً: السودان والإمارات.. الجذور السياسية لتداخل المصالح
منذ عهد الرئيس السابق عمر البشير، بدأت العلاقات بين السودان والإمارات تأخذ منحىً جديدًا، تجاوز الأطر الدبلوماسية التقليدية، ودخل في عمق البنى السياسية والاقتصادية والأمنية للدولة السودانية. لم تكن الإمارات في تلك المرحلة مجرد دولة مانحة أو شريك اقتصادي، بل كانت ترسم لنفسها دورًا استراتيجيًا فاعلًا داخل السودان، معتمدة على أدوات «القوة الناعمة» في البداية، تمهيدًا للتمدد داخل مؤسسات الدولة، وشراء الولاءات وتوجيه التوازنات من خلف الستار.
وقد شكلت زيارات الرئيس عمر البشير إلى الإمارات محطة بالغة الأهمية في هذا المسار، إذ قام بعدة زيارات رسمية و»خاصة» إلى أبوظبي بين عامي 2014 و2018، كانت في معظمها تحمل طابعًا سياسيًا وأمنيًا يتجاوز المعلن دبلوماسيًا. من أبرز تلك الزيارات كانت زيارته في أكتوبر 2014 التي مثّلت بداية تحول واضح في علاقات السودان مع الخليج بعد إعلان الخرطوم إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية. ثم توالت الزيارات، لا سيما في فبراير 2017، وسبتمبر 2018، في ظل تقارب متسارع تزامن مع مشاركة السودان في حرب اليمن ضمن «التحالف العربي» ومع ازدياد اعتماد البشير على الدعم المالي الخليجي للخروج من أزماته الداخلية.
هذه اللقاءات التي كثيرًا ما تمت بعيدًا عن الإعلام كانت بوابة لتفاهمات أمنية واقتصادية عميقة، كرّست نفوذ الإمارات داخل أجهزة الدولة السودانية، ومهّدت لتحولات استراتيجية لاحقة في بنية الحكم والاقتصاد، وجعلت أبوظبي لاعبًا حاسمًا في مستقبل النظام السوداني.
أحد المفاصل الأساسية التي غذّت هذا التمدد كان تحوّل الخرطوم من الحلف الإيراني إلى المحور الخليجي، في سياق ما عرف بـ»الطلاق السياسي» بين نظام البشير وطهران. إذ لعبت الإمارات دورًا محوريًا في هذا التحول، حيث قدمت دعماً سياسياً ومادياً كبيرًا للبشير في تلك المرحلة، مقابل تخليه عن الشراكة مع إيران، وإغلاق المراكز الثقافية التابعة لها، وإبعاد كوادرها الأمنية والاستخباراتية.
ولم يكن هذا التغيير مدفوعاً فقط باعتبارات أيديولوجية، بل كان يعكس بداية تموضع الإمارات كقوة إقليمية تحاول تطويق النفوذ الإيراني في المنطقة، وإعادة تشكيل خارطة التحالفات في الشرق الأوسط وأفريقيا.
إلا أنّ أطماع الإمارات في السودان لم تتوقف عند هذه النقطة، بل توسّعت ضمن رؤية أمنية أشمل تسعى لبناء طوق نفوذ يمتد من السواحل اليمنية على البحر العربي، إلى موانئ إريتريا وجيبوتي، مرورًا بالبحر الأحمر وحتى داخل العمق السوداني.
هذه الرؤية الاستراتيجية تقوم على تحويل السودان إلى حلقة مركزية في مشروع النفوذ الإماراتي في شرق إفريقيا، نظرًا لموقعه المطل على البحر الأحمر، الذي تمر عبره نحو 10% من التجارة العالمية، ولقربه من خطوط الطاقة والنقل الحيوية لدول الخليج.
إنّ الجذور السياسية لهذا التداخل بين السودان والإمارات تُظهر بوضوح أن العلاقة لم تكن أبدًا متكافئة أو محكومة بمصالح متبادلة، بل كانت امتدادًا لمشروع إماراتي يرى في السودان ساحة مفتوحة للتوسع، لا شريكًا متساويًا.
ومن هذا المنطلق، فإنّ فهم أبعاد التدخل الإماراتي في السودان لا يمكن أن ينعزل عن تحليل بنية هذا المشروع التوسعي، وأدواته، وتحالفاته، والنتائج الكارثية التي ترتبت عليه منذ بداياته وحتى اندلاع الحرب الراهنة.
ثانيًا: الثورة السودانية.. لحظة اضطراب ومناورة إماراتية:
مع انطلاق ثورة ديسمبر 2018 التي أطاحت بنظام البشير، وجدت الإمارات نفسها أمام لحظة ارتباك استراتيجي؛ فقد كانت حتى وقت قريب حليفة لبعض العناصر في حكومة البشير، واستثمرت لعقد من الزمن في تأمين نفوذها عبر نظامه، سواء عبر صفقات اقتصادية أو تنسيق أمني. لكن سقوط البشير لم يكن مجرد نهاية لرجل، بل كان بداية لتغيّر جذري في المشهد السوداني، أتى بقوى جديدة إلى الساحة.
إلا أنّ الإمارات، كعادتها، لم تنتظر طويلًا حتى تعيد التموضع داخل المشهد المتغير. فهِمت أبوظبي أنّ مفتاح السيطرة على مرحلة ما بعد البشير لن يكون عبر الرهان الحصري على المجلس العسكري أو القوى المدنية الصاعدة، بل عبر تعزيز حضورها داخل المؤسسة العسكرية، باعتبارها القوة الأكثر تنظيمًا، والأكثر قابلية للضبط من خلال المصالح والامتيازات. ضمن هذا السياق أعادت الإمارات توجيه بوصلتها بشكل أكثر حسمًا نحو المجلس العسكري الانتقالي، وبشكل خاص نحو «قوات الدعم السريع» التي كانت في ذلك الوقت قد تحولت إلى قوة شبه نظامية مدعومة هيكليًا وماليًا، تمثل توازنًا ميدانيًا منافسًا للجيش الرسمي، وواجهة مثالية لتنفيذ مشروعها السياسي والعسكري في السودان تحت غطاء محلي.
ورغم أنّ هذا الرهان العسكري كان هو الأوضح في سلوك الإمارات بعد سقوط البشير؛ إلا أن تحركات أبوظبي لم تقتصر عليه، بل شملت أيضًا محاولات اختراق الطيف المدني عبر قنوات سياسية غير مباشرة. فقد سعت الإمارات في بدايات الفترة الانتقالية إلى بناء علاقات مع بعض مكونات «قوى إعلان الحرية والتغيير» التي تحالفت مع المجلس العسكري، في محاولة لتقريب شخصيات مدنية يمكن الاعتماد عليها كجسر سياسي يشرعن النفوذ الإماراتي داخل السلطة الانتقالية. وتجلى ذلك بوضوح في الزيارة المثيرة للجدل التي أجراها عدد من قادة «الحرية والتغيير» إلى أبوظبي في 23 أبريل 2019، والتي أثارت وقتها انتقادات داخلية واسعة، نظرًا لسياقها الضبابي وغياب الشفافية حول أهدافها.
تلك الزيارة لم تكن مجرد حدث بروتوكولي، بل شكلت بداية لتأسيس نواة اختراق إماراتي داخل قوى مدنية، تمّ لاحقًا توسيعها عبر أدوات الدعم السياسي والمالي والارتباطات الشخصية، وهو ما ساهم في تعميق الانقسامات داخل المعسكر المدني، وإضعاف موقعه التفاوضي والسياسي لاحقًا.
قوات الدعم السريع لم تكن فقط ذراعًا عسكرية بديلة، بل كانت أيضاً أداة سياسية ضمن مشروع إماراتي يهدف إلى إعادة تشكيل السلطة الانتقالية في السودان بما يضمن وجود وكلاء مخلصين لأبوظبي داخل مفاصل القرار السيادي. ففي تلك المرحلة الحساسة لعبت الإمارات دورًا مزدوجًا: فمن جهة كانت تُقدّم نفسها كداعم للاستقرار والمساعدات الإنسانية والانتقال السلمي، ومن جهة أخرى كانت تضخ الأموال وتبرم اتفاقات غير معلنة مع قيادات عسكرية.
أبوظبي لم تكن وحدها في هذا المشهد، لكنها كانت اللاعب الأكثر تنسيقًا وفاعلية، حيث تحركت ضمن منظومة إقليمية أوسع كالرباعية ( الإمارات - السعودية - امريكا - بريطانيا) غير أنّ دورها تميّز بالبراعة في استخدام أدوات الاقتصاد والعلاقات الشخصية والنفوذ الإقليمي لتحقيق أهداف سياسية بعيدة المدى.
في المحصلة؛ لم تكن الثورة السودانية بالنسبة للإمارات فرصة لدعم التغيير، بل تحديًا واجهته بالمناورة والاحتواء وإعادة بناء شبكة نفوذها عبر أدوات جديدة، مستفيدة من هشاشة الفترة الانتقالية، وانقسامات القوى السياسية، وتردد المجتمع الدولي.
وبذلك تحولت لحظة الثورة، إلى محطة جديدة في مسار التغلغل الإماراتي، الذي لم يتوقف عند التمويل أو الدعم الإعلامي؛ بل امتد إلى إعادة صياغة المعادلة السياسية والعسكرية بما يخدم مصالح أبوظبي طويلة المدى.
ثالثًا: انقلاب 25 أكتوبر 2021.. التحول إلى العدوان السياسي الصريح
شكّل انقلاب 25 أكتوبر 2021 نقطة تحول مفصلية في المشهد السوداني، ليس فقط على صعيد الداخل، بل أيضًا على مستوى توازنات الإقليم وتدخلاته في الشأن السوداني. لكن هذه الخطوة لم تكن محض قرار داخلي، بل جاءت نتيجة سلسلة من التفاعلات الإقليمية، التي اعتُبرت مصدر قلق لأبوظبي وللتحالف الإقليمي الذي تقوده، والتي بدورها رأت في الانقلاب فرصة لاستعادة السيطرة على مسار الانتقال، وإعادة توجيهه نحو سلطة عسكرية موالية.
وقد مثّل هذا الانقلاب لحظة اضطراب استراتيجي للإمارات، كشفت حجم التعقيد في علاقتها المتشابكة مع الفاعلين السودانيين، حيث انقسم حلفاؤها إلى تيارين متعارضين: فمن جهة، وقف محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الحليف الراسخ لأبوظبي إلى جانب الانقلاب؛ باعتباره فرصة لتعزيز نفوذه العسكري والسياسي. ومن جهة أخرى، كانت بعض مكونات «قوى الحرية والتغيير» التي عملت الإمارات على التقرب منها خلال الفترة الانتقالية، رافضة تمامًا للانقلاب ومتمسكة بالمسار المدني.
هذا الانقسام أربك حسابات أبوظبي، ودفعها إلى تبني مناورة دقيقة لإعادة التوازن بين حلفائها المدنيين والعسكريين؛ مستفيدة من شبكتها داخل «الرباعية الدولية» (الإمارات – السعودية – الولايات المتحدة – بريطانيا).
وفي هذا السياق، لعب السفير الإماراتي في الخرطوم دورًا محوريًا في إدارة التوازنات، من خلال تحركات نشطة بين القيادات العسكرية والمدنية، بتنسيق وثيق مع مؤسسات وشخصيات محلية، عملت على تسويق المبادرات وتسهيل بناء تفاهمات تحفظ النفوذ الإماراتي. لقد سعت أبوظبي إلى تكثيف اختراقها للمعادلة الانتقالية الجديدة، مستندة في ذلك إلى طرفين أساسيين: على المستوى العسكري قوات الدعم السريع وقيادتها؛ وعلى المستوى السياسي قوى مدنية داخل «الحرية والتغيير».
هذا التوزع في التحالفات كان أحد العوامل التي فجّرت التباين بين حميدتي والجيش لاحقًا، وأسهم في تشكيل المناخ الذي أدى إلى توقيع الاتفاق الإطاري وما أعقبه من مسارات تفاوضية معقدة.
لكن الأهم من الجانب السياسي، هو أن الإمارات بعد هذا الانقلاب تخلّت عن حيادها الظاهري، وبدأت بالتحرك بوصفها شريكًا مباشرًا في صياغة ملامح النظام السوداني الجديد. كانت أدواتها في ذلك متعددة، أبرزها تحالفها الوثيق مع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائب رئيس المجلس السيادي وقائد قوات الدعم السريع، الذي أصبح فعليًا رأس الحربة في تنفيذ السياسات الإماراتية على الأرض.
ومع أن الانقلاب ظهر شكليًا بقيادة البرهان، إلا أن النفوذ الإماراتي ميدانيًا كان موجهًا نحو تعزيز موقع حميدتي، وتوسيع قدراته الأمنية والاقتصادية، وتكريس الدعم السريع كقوة سياسية وعسكرية بديلة، يمكن استخدامها في مواجهة الجيش النظامي إذا اقتضت الضرورة.
في هذه المرحلة، بدأت تظهر بشكل أوضح ملامح «العدوان السياسي الصريح»، حيث لم تكتف الإمارات بالدعم اللوجستي أو بالاستثمار الاقتصادي، بل انخرطت في تمويل مباشر للمشاريع التي تخدم وكلاءها، وتوسيع النفوذ في مناطق مثل دارفور والخرطوم عبر شراكات أمنية وتجارية.
كما نشرت وسائل إعلام غربية تقارير موثقة عن دور الإمارات في تمكين حميدتي من خلال منحه عقود مشاركة في الحرب في اليمن تحت راية التحالف العربي؛ مما وفر له - ولقياداته الميدانية - مصادر دخل ضخمة، وشبكة علاقات أمنية وعسكرية تتجاوز حدود السودان.
هذه المشاركة مكّنت قوات الدعم السريع من بناء نموذج خاص بها، أقرب إلى «جيش موازٍ عابرٍ للحدود»، له تسليحه وتمويله وخطوط اتصالاته المستقلة، وبعيد عن الرقابة المؤسسية للجيش السوداني، وهو ما عمّق من اختلال توازن القوى داخل المؤسسة العسكرية، وخلق واقعًا سياسيًا جديدًا تحكمه ازدواجية في مراكز القرار والقوة.
هكذا، مثل انقلاب 25 أكتوبر لحظة التحول من التسلل الناعم إلى العدوان السياسي الصريح، حيث باتت الإمارات طرفًا أساسيًا لا يسعى فقط إلى التأثير في مخرجات السياسة السودانية، بل إلى التحكم المباشر في مدخلاتها، وفرض واقع سياسي جديد يرتهن لمصالح أبوظبي الإقليمية، ويقوّض إمكانية قيام نظام وطني مستقل يمثل إرادة السودانيين.
رابعًا: الحرب الحالية.. الوكيل المحلي يتحول إلى جيش ظل إماراتي:
اندلعت الحرب في السودان في 15 أبريل 2023، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، أثناء المناقشات المتعلقة بدمج القوات ضمن هيكل الجيش خلال الاتفاق الإطاري الذي تمت هندسته بما يتوافق مع مصالح أبوظبي؛ مسنودة بقوة تأثيرها على الداخل السوداني وعلى البيئة الخارجية المتمثلة في الرباعية والبعثة الأممية بقيادة «فولكر»، وهو الملف الذي شكل لسنوات نقطة خلاف مزمنة. لكن هذه الحرب، رغم مظهرها المحلي، لم تكن مجرد نتيجة لتضارب المصالح بين مؤسستين عسكريتين داخليتين؛ بل مثّلت الانفجار الحتمي لصراع طويل الأمد، تغذّيه وتحركه قوى إقليمية تتصارع على النفوذ والثروات والموقع الجيوسياسي للسودان.
من بين هذه القوى تبرز دولة الإمارات باعتبارها اللاعب الخارجي الأكثر تأثيرًا، والأكثر انخراطًا في توجيه مسار الصراع. إذ تحوّلت «قوات الدعم السريع» خلال السنوات الماضية إلى ما يمكن تسميته بـ»جيش ظل» تابع للإمارات داخل السودان، ليس فقط بسبب الدعم المالي السخي، بل أيضًا بسبب ارتباطها العضوي بمنظومة مصالح إماراتية أكبر تمتد من دارفور غربًا حتى البحر الأحمر شرقًا.
هذا التحول لم يكن مفاجئًا، بل كان نتيجة عملية تراكمية بدأت منذ مشاركة الدعم السريع في حرب اليمن تحت راية التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات؛ حيث تم تشكيل قنوات تمويل وتسليح وتدريب مكّنت حميدتي من بناء قوة موازية للجيش الرسمي، بل تتجاوزه أحيانًا من حيث القدرات النوعية والموارد الذاتية.
في المشهد الميداني، ظهرت بوضوح آثار هذا الدعم الخارجي؛ إذ رُصِدت تحركات عبر طرق تهريب السلاح تمتد من شرق ليبيا - الخاضع لنفوذ الجنرال خليفة حفتر المدعوم إماراتيًا - مرورًا بتشاد، حيث توجد شبكات تهريب وميليشيات لها علاقات وثيقة بأبوظبي، وانتهاءً بغرب السودان.
هذه الخطوط تمثل شرايين لوجيستية حيوية للدعم السريع، لا يمكن تفسير استمراريتها دون وجود دعم ورعاية من جهاز استخباراتي إقليمي يمتلك الخبرة والقدرة على تشغيل شبكات عابرة للحدود.
تقارير استخبارية غربية، إلى جانب تحقيقات صحفية منشورة في وسائل إعلام دولية مثل «CNN» و»Financial Times»، أشارت بشكل متكرر إلى وجود جسر جوي فعلي يربط بين الإمارات ومناطق سيطرة قوات الدعم السريع في دارفور ووسط السودان. هذا الجسر تم عبر مطارات في شرق ليبيا وفي شمال تشاد، حيث وصلت شحنات من الأسلحة والمعدات إلى مناطق النزاع، بعيدًا عن أعين المجتمع الدولي، مستغلًا فوضى الحدود والإرباك الذي تعيشه السلطات الانتقالية في دول الجوار.
وما يزيد من حساسية هذا الدعم أنه لم يكن محصورًا في الجانب العسكري فقط؛ بل شمل كذلك الدعم الإعلامي والدبلوماسي، حيث عملت شركات علاقات عامة ومراكز بحثية ممولة إماراتيًا على ترويج سردية تُصوّر الدعم السريع كطرف سياسي «واقعي» وقوة «معتدلة» يمكن الاعتماد عليها في إدارة المستقبل السياسي للسودان، في مقابل تقديم القوات المسلحة كامتداد للنظام السابق أو كمؤسسة غير قابلة للإصلاح.
هذا الخطاب جرى تسويقه في المحافل الدولية؛ وخاصة في دوائر صنع القرار الغربي، بهدف إعادة صياغة الموقف الدولي تجاه أطراف الحرب السودانية.
إنّ هذا الدعم الإماراتي المباشر وغير المباشر يعيد تشكيل طبيعة الصراع في السودان، ويمنح أحد أطرافه - قوات الدعم السريع - ميزة ميدانية واستراتيجية تخلّ بالتوازن الداخلي، وتحول دون الوصول إلى تسوية عادلة ومنصفة. كما أنّ هذا الانخراط العلني والسرّي في آنٍ واحد يكشف عن حجم الرهانات الإماراتية على حسم الصراع لصالح وكلائها المحليين، في مسعى لتحويل السودان إلى ساحة نفوذ شبه دائمة، تُدار من خلف الستار عبر قوى مأجورة أو مدفوعة الولاء.
خامسًا: تشابك الحسابات وتكريس الإقصاء.. كيف صاغت الإمارات خارطة التوازنات في السودان؟
مع تصاعد الحرب، بدأ السودان يتحول تدريجيًا إلى ساحة صراع إقليمي ودولي مفتوحة، حيث تسعى قوى متعددة إلى توجيه مخرجات الأزمة بما يخدم تصوراتها الاستراتيجية ومصالحها الاقتصادية والعسكرية. في هذا السياق، برزت الإمارات كفاعل محوري يسعى إلى حجز موقع متقدم في أي ترتيبات سياسية قادمة عبر وكلائها المحليين، وعلى رأسهم قوات الدعم السريع. لكن هذا الطموح لم يكن إماراتيًا صرفًا؛ بل تَشابك مع أجندات «الحلف الإماراتي- الإسرائيلي» الذي تبلور بشكل أوضح بعد توقيع اتفاقيات «أبراهام»، وبدأ يُترجم على الأرض في أفريقيا، حيث تسعى أبوظبي لأن تكون رأس الحربة لتطبيع إسرائيلي ناعم وواسع في القارة، لا سيما في الدول الهشة مثل السودان.
هذا التحالف لم يُخفِ نواياه في السيطرة على الموانئ السودانية على البحر الأحمر، وممرات نقل الطاقة، ومناطق استخراج الذهب واليورانيوم، بما يعزز تموضعه في خارطة التنافس الدولي في منطقة القرن الأفريقي وشرق إفريقيا. غير أنّ محاولات الإمارات للهيمنة على الملف السوداني لم تقتصر على دعم الحلفاء؛ بل شملت أيضًا مساعي مبكرة لإقصاء الفاعلين الإقليميين والدوليين الذين تعارضت رؤاهم مع الطموحات الإماراتية.
من أبرز هؤلاء كانت دولة قطر، التي سعت الإمارات إلى إخراجها مبكرًا من المشهد السوداني، في حادثة شهيرة تعود إلى مايو 2019، حين مُنعت طائرة قطرية رسمية من الهبوط في مطار الخرطوم، بأوامر من المجلس العسكري، ليتضح لاحقًا أن هذه التعليمات صدرت بتوجيه مباشر من محمد حمدان دقلو، أحد أهم وكلاء الإمارات في السودان آنذاك.
كذلك عملت الإمارات على تحجيم الدور المصري، رغم أنّ القاهرة تُعد من أكثر الدول تشابكًا مع الملف السوداني بحكم الجوار والمصالح الاستراتيجية، إلا أنّ موقفها الثابت والداعم للمؤسسة العسكرية الرسمية، ورفضها لمشروع صعود قوات الدعم السريع كمليشيا موازية، جعلها غير مرغوب فيها ضمن الترتيبات التي كانت تقودها أبوظبي. وقد تجلّى ذلك في تكوين «الآلية الرباعية» للتعامل مع الأزمة السودانية، والتي ضمت الولايات المتحدة، وبريطانيا، والسعودية، والإمارات، دون أي تمثيل للقاهرة، في تجاهل متعمد لدورها الإقليمي وموقعها الحيوي.
ولم يقتصر النفوذ الإماراتي على الجوانب السياسية والعسكرية، بل امتد أيضًا إلى مباحثات السلام، حيث حافظت أبوظبي على موقعها كراعٍ مؤثر في اتفاقية جوبا لسلام السودان، مما أتاح لها النفاذ إلى الترتيبات الأمنية والتوازنات المحلية في دارفور ومناطق النزاع.
وهكذا، لم تكن الإمارات تسعى فقط لتوسيع نفوذها داخل السودان، بل عملت بفعالية على إعادة صياغة البيئة الإقليمية المحيطة به، بما يضمن استمرار الهيمنة والتحكم في مسارات الحرب والسلام، بعيدًا عن أي توازن إقليمي لا يتماشى مع تصورها الخاص لمستقبل السودان والمنطقة.
سادسًا: ماذا تريد الإمارات من السودان؟
ليس من المبالغة القول إن الإمارات تسعى لتحويل السودان إلى منطقة نفوذ استراتيجي ضمن رؤيتها الكبرى لإعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية في البحر الأحمر وشرق إفريقيا. هذه الرغبة ليست جديدة؛ بل هي جزء من طموحات توسعية تسعى أبوظبي من خلالها للهيمنة على مفاصل الجغرافيا السياسية الإفريقية، مستفيدة من هشاشة الدولة السودانية وانقسام نخبها، وانشغال المجتمع الدولي بصراعات أخرى.
أحد أبرز أوجه هذا الطموح يتمثل في السعي الإماراتي المحموم للسيطرة على الموانئ السودانية، وفي مقدمتها بورتسودان وسواكن. فبالنسبة لأبوظبي، لا يُنظر إلى هذه الموانئ كبوابات تجارية فحسب، بل كعقد استراتيجية مطلة على الممرات المائية الأهم في العالم، من قناة السويس إلى مضيق باب المندب.
فالسيطرة على هذه الموانئ تتيح للإمارات تعزيز موقعها ضمن تحالف البحر الأحمر، وتأمين خطوط إمدادها التجارية والعسكرية، وتوسيع وجودها اللوجيستي بالتنسيق مع الكيان الصهيوني، الذي أصبح شريكًا اقتصاديًا وأمنيًا بعد اتفاقات «أبراهام».
في الوقت نفسه، يبرز الذهب والثروات المعدنية كأحد محاور الأطماع الإماراتية في السودان؛ فمع تزايد الحاجة إلى مصادر بديلة للدخل والاستثمار بعد تذبذب سوق النفط، وجدت أبوظبي في الذهب السوداني فرصة نادرة للربح السريع والسيطرة الخفية. وقد برزت شركات مثل «الجنيد» – المرتبطة مباشرة بقوات الدعم السريع – كأداة فعالة لنقل الذهب السوداني إلى الأسواق العالمية عبر قنوات إماراتية. وتمت عمليات استخراج وتصدير ضخمة خلال السنوات الماضية دون رقابة حكومية حقيقية، مما تسبب في نزيف اقتصادي هائل للسودان، في مقابل تراكم نفوذ مالي ضخم لدى وكلاء الإمارات المحليين.
أمّا الأراضي الزراعية فقد شكّلت منذ عهد البشير جزءًا أساسيًا من مشروع الأمن الغذائي الإماراتي، والذي يقوم على استغلال الأراضي الخصبة في دول جنوبية لإنتاج محاصيل استراتيجية يُعاد تصديرها إلى الإمارات. فالسودان؛ بأراضيه الشاسعة ونظامه القانوني الهش مثّل بيئة مثالية لهذه المشاريع. وتحاول شركات إماراتية السيطرة على آلاف الأفدنة في ولايات السودان المختلفة مما يهدد الأمن الغذائي الوطني للسودان في وقت يشهد فيه تصاعدًا في معدلات الفقر والنزوح.
ولم تقتصر المطامع الإماراتية على الاقتصاد والموانئ، بل امتدت إلى البنية السياسية والاجتماعية، حيث سعت أبوظبي إلى إعادة تشكيل التوازنات الداخلية في السودان بما يخدم رؤيتها. من هذا المنطلق، عملت الإمارات على تحجيم القوى الوطنية السودانية، وتقديم الدعم الصريح أو الضمني للوكلاء؛ انطلاقًا من عدائها البنيوي مع أي حراك وطني ديمقراطي.
ضمن هذا المشهد، تأتي رغبة الإمارات في الدفع نحو تطبيع السودان مع إسرائيل كجزء من مشروعها الإقليمي الأوسع. فمنذ توقيع اتفاقات «أبراهام»، تسعى أبوظبي إلى توسيع دائرة الدول المطبّعة لتمنح شرعية أكبر للتقارب العربي- الإسرائيلي، مع محاولة فرض أجندة اقتصادية وأمنية جديدة في الإقليم. والسودان بالنسبة للإمارات يشكل حلقة استراتيجية في هذا المشروع؛ نظرًا لموقعه الجغرافي على البحر الأحمر، وتاريخه الطويل كدولة مواجهة، وصراعاته الداخلية التي تجعل نخبه قابلة للضغط والمساومة.
وقد كانت الإمارات من أوائل الدول التي دفعت نحو توقيع السودان على اتفاق التطبيع في عهد الحكومة الانتقالية رغم المعارضة الشعبية والسياسية الواسعة لهذا الخيار.
إنّ مشروع الإمارات في السودان ليس مجرد استثمار نفعي أو تدخل عابر، بل هو جزء من رؤية إمبريالية ناعمة تسعى لإعادة إنتاج السيطرة عبر وكلاء محليين، واستغلال الانقسامات الداخلية، وبناء مراكز نفوذ في الجغرافيا القلقة من العالم العربي والإفريقي. وفي ظل غياب إرادة وطنية موحدة، ومجتمع دولي متواطئ أو غير مبالٍ؛ يصبح السودان ساحة مفتوحة لطموحات تتجاوز حدوده وتستهين بإرادة شعبه.
سابعًا: النقلة الثالثة.. إلى أين تتجه الإمارات الآن؟
المقال يطرح مفهوم «النقلة الثالثة» في الحرب السودانية باعتبارها تمثل تحولًا نوعيًا في طريقة تعاطي الإمارات مع الصراع، حيث لم تعد أبوظبي تكتفي بالدور التقليدي الذي ارتكز في البداية على استخدام أدوات النفوذ الناعم وشراء الولاءات، والذي بدأ منذ ما قبل سقوط نظام البشير، حين عملت الإمارات على اختراق النخب السياسية والاقتصادية عبر الدعم المالي والمنح الاستثمارية، وتعزيز حضورها في قطاعات حيوية كالموانئ والزراعة والتعدين. هذا النفوذ الناعم تطور بعد الثورة السودانية إلى دعم عسكري وسياسي مباشر لوكلاء محليين، كان أبرزهم قوات الدعم السريع، والتي تحولت بفضل التمويل والتسليح الإماراتي إلى لاعب أساسي في الساحة السودانية تمكّن من مجاراة المؤسسة العسكرية التقليدية؛ بل وتهديدها في العديد من اللحظات المفصليّة.
غير أنّ ما نشهده اليوم هو انتقال الإمارات إلى مرحلة أكثر جرأة وخطورة، تتمثل في محاولة فرض واقع سياسي جديد من خلال تدويل الأزمة السودانية والدفع نحو وصاية دولية غير معلنة، تُدار بالتنسيق مع حلفاء دوليين وإقليميين. ففي هذه المرحلة لم تعد أبوظبي تتحرك فقط كداعم لفصيل عسكري؛ بل تسعى لإعادة هندسة المعادلة السياسية برمّتها. حيث تعمل الإمارات حاليًا على بناء سردية دولية منظمة تُقدّم من خلالها الدعم السريع كقوة سياسية- عسكرية «أمر واقع» تدّعي تمثيله لمناطق واسعة من السودان؛ في مقابل شيطنة القوات المسلحة السودانية وتصويرها كحارس لتركة الإسلاميين أو طرف غير قابل للإصلاح.
هذه السردية التي يتم الترويج لها من خلال شبكات ضغط إعلامية ومراكز ممولة، تستهدف تليين مواقف المجتمع الدولي تجاه الدعم السريع، ودفع الأطراف الغربية للقبول بمفاوضات تُفضي إلى تشكيل نظام انتقالي جديد يُضمن فيه لوكلاء الإمارات موضع قدم في مؤسسات الدولة.
وفي سياق هذا المشروع، تروّج أبوظبي لفكرة أن الحل في السودان لا يمكن أن يكون سودانيًا صرفًا؛ بل لا بد من إدارة دولية تُعيد التوازن، وهو ما يفتح الباب أمام فرض وصاية سياسية واقتصادية شبيهة بتجارب سابقة في العراق وليبيا، لكن بواجهة أممية وشركاء محليين تم اختيارهم بعناية.
هذه «النقلة الثالثة» التي يعمل المقال على تفكيكها، هي أخطر مراحل المشروع الإماراتي في السودان؛ لأنها تهدف إلى إضفاء شرعية على نتائج الحرب بدلاً من السعي لإنهائها، وتُكرّس تفكك الدولة بدلًا من دعم وحدتها، وهي بذلك تتجاوز مسألة النفوذ إلى مشروع تحكّم كامل في مستقبل البلد.
ثامنًا: سيناريوهات مستقبلية:
مع تعقيد المشهد السوداني واستمرار الحرب لأكثر من عامين، بات من الضروري التفكير في السيناريوهات المحتملة لمستقبل الصراع، لا سيما في ظل الدور المتعاظم الذي تلعبه الإمارات كطرف خارجي رئيس في تأجيج الأزمة وتحريك أطرافها.
يتمثل السيناريو الأول في استمرار الحرب وتحول السودان إلى نموذج مشابه لما حدث في ليبيا، حيث تتأثر سلطة الدولة المركزية وتتقاسم الفصائل المسلحة السيطرة على الجغرافيا والموارد. وفي هذا السياق، يمكن أن تتحول الإمارات إلى قوة أمر واقع في مناطق مثل دارفور وكردفان، عبر تمكين قوات الدعم السريع من إدارة تلك المناطق كسلطة مستقلة، مدعومة ماليًا وعسكريًا ولوجيستيًا من أبوظبي. هذا السيناريو يكرّس لتفكيك السودان إلى كيانات متناحرة، ويمنح الإمارات نفوذًا فعليًا على الأرض دون الحاجة للاعتراف الرسمي.
أمّا السيناريو الثاني فيتعلق بفرض تسوية سياسية دولية تُدار من الخارج وتُبرم بين الفاعلين الدوليين والإقليميين، مثل الولايات المتحدة والإمارات وإسرائيل، بغرض إنهاء الصراع بشكل يخدم مصالح هذه القوى.
هذا السيناريو قد يتضمن تفكيك المؤسسة العسكرية السودانية أو على الأقل تقليم أظفارها، مقابل دمج عناصر «الدعم السريع» في مؤسسات الدولة تحت مظلة «الإصلاح الأمني» بما يمنح حلفاء الإمارات نفوذًا دائمًا داخل الهياكل الرسمية للدولة السودانية.
هذه التسوية تُطرح عادة بواجهة إنسانية؛ تحت ذريعة وقف الحرب والمعاناة، لكنها في جوهرها تسوية تفرضها موازين القوى ولا تنبع من الإرادة الوطنية السودانية.
من جهة أخرى، لا يمكن استبعاد سيناريو التراجع الإماراتي التكتيكي نتيجة الضغوط الدولية المتزايدة، لا سيما بعد تصاعد التقارير حول الجرائم والانتهاكات المرتكبة من قبل قوات الدعم السريع في حق المدنيين، بما في ذلك استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب، والتطهير العرقي، والنهب الممنهج.
هذا الضغط قد يدفع الإمارات إلى تخفيف انخراطها العسكري العلني، أو تقليص قنوات الدعم المباشر؛ إلا أن هذا التراجع سيكون في الأغلب تكتيكيًا وليس استراتيجيًا، حيث تبقى الأهداف الكبرى للإمارات – السيطرة على الموارد، والتأثير السياسي، وتعزيز التحالف الإقليمي مع إسرائيل – قائمة ومستمرة، وإن اختلفت وسائل تحقيقها.
وأخيرًا، يظل احتمال دخول قوى إقليمية ودولية جديدة إلى ساحة النزاع السوداني واردًا؛ في محاولة لموازنة النفوذ الإماراتي وخلق توازن قوى جديد. غير أن دخول هذه القوى سيؤدي إلى مزيد من التدويل، مما يعقّد فرص الحل، ويجعل الأزمة أكثر تشابكًا وارتباطًا بصراعات لا علاقة لها بالواقع السوداني المحلي.
في المحصلة، كل هذه السيناريوهات تنبئ بأن السودان دخل مرحلة جديدة من الحرب، تتجاوز الداخل إلى صراعات النفوذ الإقليمي والدولي، وهو ما يجعل مسألة استعادة السيادة الوطنية أمرًا معقدًا يتطلب مقاربة شاملة تتجاوز الحلول العسكرية أو الترتيبات السياسية المؤقتة.
خاتمة.. بين طموح الإمارات ومستقبل السودان:
إنّ ما يجري في السودان لا يمكن اختزاله في كونه حربًا أهلية أو صراعًا بين جنرالات طامحين إلى السلطة، بل هو في جوهره انعكاس لصراع جيوسياسي متشابك، تتداخل فيه المصالح الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها الطموح الإماراتي والإسرائيلي لإعادة تشكيل الخارطة السياسية لمنطقة البحر الأحمر وشرق إفريقيا؛ بما يتوافق مع استراتيجيات الهيمنة الاقتصادية والعسكرية. الخرطوم، الفاشر، بورتسودان، الجنينة، وحتى نيالا، لم تعد مجرد مدن سودانية منكوبة بفعل الحرب، بل باتت محاور نزاع دولي غير معلن، تتقاطع فيها خطوط أنابيب المصالح من أبوظبي وتل أبيب مرورًا بواشنطن، وتنعكس نتائجها على مصير ملايين السودانيين.
المشروع الإماراتي في السودان لم يعد يكتفي باقتناص الموارد أو شراء الولاءات؛ بل تطور إلى محاولة هندسة سياسية جديدة للدولة السودانية نفسها، قائمة على تفكيك مؤسساتها وإعادة تشكيل بنيتها وفقًا لمصالح الخارج. النقلة الثالثة التي يشير إليها المقال – أي انتقال الإمارات من النفوذ الناعم إلى الرعاية المباشرة لمشروع التدويل والوصاية – ليست فقط تكتيكًا سياسيًا أو خيارًا مرحليًا، بل تمثل قفزة نوعية في رؤية أبوظبي للدور الذي تريد أن تلعبه في مستقبل السودان؛ ليس كمستثمر أو داعم سياسي، بل كفاعل مركزي في صياغة ملامح الدولة السودانية القادمة، وحدودها، وتحالفاتها، وحتى تركيبتها الاجتماعية.
هذا التوجه يحمل في طياته مخاطر جسيمة على وحدة السودان واستقلال قراره الوطني. إذ في حال فشلت القوى الوطنية - المدنية والعسكرية على حد سواء- في استعادة زمام المبادرة، والجلوس على طاولة مشروع وطني جامع يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس العدالة والمواطنة والسيادة؛ فإن البلاد ماضية نحو مزيد من التفتت، والانقسام إلى مناطق نفوذ تخضع لوكلاء خارجيين؛ يعمل كل منهم ضمن أجندة لا تعبّر عن مصالح الشعب السوداني، بل عن طموحات قوى طامعة في الأرض والثروة والموقع.
الخطر لا يكمن فقط في استمرار الحرب، بل في تطبيعها. في أن يتحول النزاع الحالي إلى حالة دائمة، يتم إدارتها لا حلها، وتُستخدم كأداة لإعادة إنتاج النخبة التابعة، وتبرير التدخل الخارجي، وتجويف فكرة الدولة الوطنية من مضمونها.
وفي هذه المعادلة، تصبح الإمارات ليست فقط لاعبًا من خارج الحدود، بل «شريكًا في الداخل»، يمتلك أدوات التأثير والنفوذ والتمويل؛ بل ويحدد من يحق له أن يحكم، ومن يتم إقصاؤه.
إنّ إنقاذ السودان من هذا المصير لا يمكن أن يأتي إلا من الداخل؛ من صحوة وطنية عميقة؛ تدرك أن استقلال القرار السياسي لا يتحقق بالشعارات، بل ببناء جبهة داخلية موحدة، تضع مصلحة السودان فوق الولاءات الإقليمية، وتقاوم بعقلانية ووضوح مشاريع الوصاية الجديدة، مهما تزيّنت بعبارات التنمية أو الاستقرار أو الإصلاح.
إنّ السودان، بتاريخ شعبه، وثراء موارده، وتجربة ثورته، يملك من المقومات ما يؤهله لأن يكون دولة مستقلة فاعلة في محيطها، لا ساحة لصراع الآخرين. لكن ذلك لن يتحقق إلا إذا توقفت القوى الوطنية عن التعويل على الخارج، وبدأت في رسم طريقها بأيديها، بعيدًا عن طموحات الإمارات، وابتزاز التحالفات، وقيود التدويل، فإما أن يستعيد السودان سيادته، أو يُعاد تشكيله وفقًا لخرائط لا ترعى مصالحه، بل تقطّع أوصاله لمصلحة من يتقن الاستثمار في الفوضى.
اصدارات دورية
النقلة الثالثة للحرب في السودان: من الانقلاب إلى العدوان المباشر وتدويل الصراع
09/08/2025

أخبار حديثة
- 17/08/2025رويترز: جنوب السودان يناقش مع إسرائيل تهجير فلسطينيين إلى أراضيه
- 17/08/2025تخفيضات التمويل تهدد جهود وقاية أطفال أفريقيا من الملاريا
- 17/08/2025مالي تعلن إحباط مخطط لزعزعة البلاد بدعم دولة أجنبية
- 17/08/2025الاتحاد الأفريقي يدعو لاعتماد خريطة "الأرض المتساوية" إنصافا للقارة
- 17/08/2025مطار بيشوفتو الإثيوبي.. خطوة نحو الريادة الجوية الأفريقية
- 17/08/2025إدارة ترامب تدرس تحديد سقف اللاجئين ومنح الأفريكانيين الأولوية