د. أمجد فريد الطيب
«الاستعمار الحقيقي هو الذي يسيطر على عقول الشعوب؛ فيجعلها ترى مصالح المستعمر كمصالحها الخاصة، وتُقايض سيادتها بوعود وهمية بالتقدم». نغوجي وا ثيونغو، تحرير العقل (1986)
في المشهد العالمي المعاصر، والذي ترسم خطوط القوة والسيطرة فيه خرائط جديدة للتنافس الدولي؛ تبرز القارة الإفريقية، بثرواتها الطبيعية الهائلة وهشاشتها السياسية كساحة مركزية لهذا الصراع؛ تحت شعارات برّاقة مثل «التنمية المستدامة» و «الشراكات الاستراتيجية» وتُعقد صفقات استثمارية تثير تساؤلات عميقة: هل هي بالفعل جسور نحو نهضة اقتصادية مستقلة، أم أنها مجرد إعادة إنتاج متقنة لأشكال الهيمنة والاستغلال الاستعماري بصيغ أكثر حداثة و نعومة؟
تُعد الاتفاقية الاستراتيجية الجديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والتي تتمحور حول مبادلة المعادن النفيسة والاستراتيجية بالدعم الأمني، نموذجاً فجاً على هذه الإشكالية. وبينما لم تُبرم بشكل نهائي حتى يونيو 2025م إلا أن تفاصيلها تكشف عن ديناميكيات جيواستراتيجية محتدمة، وتفضح أيضاً استمرارية وتطور البنى التاريخية للتبعية الاستعمارية. كما تطرح أسئلة مُقلقة حول مستقبل السيادة والقرار الوطني في إفريقيا والعالم الجنوبي بأسره.
تقع جمهورية الكونغو الديمقراطية في قلب إفريقيا، بمساحة تزيد عن 2.34 مليون كيلومتر مربع، مما يجعلها ثاني أكبر دولة في القارة بعد الجزائر، وهي جزء من تحالف مجتمع شرق إفريقيا (EAC) رغم امتدادها غربًا حتى شواطئ المحيط الأطلسي، كما تنتمي إلى مجموعة تنمية الجنوب الإفريقي (SADC) بالإضافة إلى عضويتها في الاتحاد الإفريقي؛ المنظمة القارية الجامعة.
وتحيط بها تسع دول تشكل حدودها الشاسعة؛ فمن الشمال تجاورها جمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان، ومن الشرق أوغندا ورواندا وبوروندي وتنزانيا عبر بحيرة تنجانيقا، ومن الجنوب زامبيا وأنغولا، بينما تُطلّ غربًا على جمهورية الكونغو (برازافيل) وعلى المحيط الأطلسي عبر مصب نهر الكونغو.
يبلغ عدد سكان الكونغو حوالي 115 مليون نسمة مع معدل نمو سكاني مرتفع يقارب 3% سنويًا. وتضم أكثر من 400 مجموعة عرقية، يهيمن عليها شعب البانتو بنسبة تقارب الـ 80%.
وتُعدّ الكونغو كنزًا طبيعيًا؛ حيث تمتلك أكثر من 60% من احتياطيات الكوبالت العالمية، إلى جانب النحاس، الليثيوم، الذهب، الكولتان، والماس، فضلاً عن حوض الكونغو؛ الذي يعتبر ثاني أكبر غابة مطيرة في العالم.
ورغم أنّ ناتجها المحلي البالغ 150.8 مليار دولار، إلا أنّ أكثر من 75% من سكانها يعيش تحت خط الفقر؛ بسبب الفساد، وعدم الاستقرار السياسي.
- إرث ليوبولد الدامي في الكونغو.. الأساس الوحشي للدولة المشوهة:
لفهم عمق المأساة الكونغولية الحالية لا بد من العودة إلى جذورها الأكثر وحشية، والتي لا تكمن في الاستعمار التقليدي فحسب؛ بل في تجربة فريدة من نوعها في تاريخ النهب الإنساني.
لم تكن الكونغو في نهاية القرن التاسع عشر مستعمرة بلجيكية بالمعنى المؤسسي، بل كانت «مِلكيّة خاصة» للملك البلجيكي ليوبولد الثاني. ففي مؤتمر برلين عام 1885م وبدهاء سياسي منقطع النظير تمكن ليوبولد من إقناع القوى الأوروبية بمنحه حوض الكونغو الشاسع تحت مسمى «دولة الكونغو الحرة» واعداً بمحاربة تجارة الرقيق وتحقيق أهداف إنسانية.
لكن الواقع كان على النقيض تماماً؛ إذ حوّل ليوبولد البلاد إلى معسكر عمل قسري هائل؛ مستخدماً جيشاً من المرتزقة يُعرف بـ «القوة العمومية» (Force Publique) لإجبار السكان المحليين على جمع المطاط والعاج.
فالنظام الذي أسسه ليوبولد كان قائماً على الإرهاب المطلق؛ إذ فُرضت على كل قرية حصص شبه مستحيلة من المطاط، وكان الفشل في تحقيقها يُعاقب بوحشية لا يمكن تصورها. وأصبحت ممارسة بتر الأيدي والأقدام سياسة ممنهجة لإرهاب السكان وإجبارهم على الطاعة، وكانت الأطراف المبتورة تُعرض كدليل على تنفيذ العقاب.
هذا النظام الجهنمي بالإضافة إلى المجاعات والأمراض التي تفشت؛ نتيجة انهيار البنى الاجتماعية والزراعية أدى إلى كارثة ديموغرافية؛ حيث تشير تقديرات تاريخية موثوقة إلى أنّ عدد سكان الكونغو انخفض بمقدار النصف تقريباً بنهاية سيطرة ليوبولد الثاني المطلقة في 1908، إذ لقي ما بين 10 إلى 15 مليون إنسان حتفهم في واحدة من أفظع جرائم الإبادة الجماعية المنسية في التاريخ الحديث.
لم يكن هذا الرعب ليبقى طي الكتمان إلى الأبد؛فبفضل جهود شجاعة من شخصيات مثل الموظف البريطاني إدموند دين موريل (E. D. Morel)، الذي لاحظ من خلال عمله في شركة شحن أن السفن العائدة من الكونغو محملة بالثروات بينما تذهب إليها الأسلحة والذخائر فقط، والدبلوماسي روجر كيسمنت (Roger Casement)، الذي أعد تقريراً مفصلاً عن الفظائع، بدأت حملة دولية واسعة لفضح جرائم ليوبولد. وتحت وطأة هذا الضغط العالمي، اضطر الملك في عام 1908 إلى التنازل عن ملكيته الخاصة، لتتحول «دولة الكونغو الحرة» إلى «الكونغو البلجيكية»، أي مستعمرة رسمية تابعة للدولة.
لكن هذا التحول، ورغم أنه أوقف بعض الممارسات الأكثر وحشية إلا أنّه لم يغير جوهر العلاقة الاستغلالية. فاستمر النهب الاقتصادي للموارد، وفُرض نظام فصل عنصري صارم، وعمّقت الإدارة البلجيكية الانقسامات العرقية عبر سياسة «فرق تسد» مُفضلةً مجموعات إثنيّة على أخرى في الإدارة والجيش؛ وهو ما زرع بذور الصراعات الدامية التي ستنفجر في وجه الدولة الوليدة بعد عقود.
كان التعليم في الكونغو محدودًا ومحكومًا بسلطة البعثات الكاثوليكية، ولم يُتح سوى لعدد ضئيل من النخبة المعروفة باسم الإيفولويه، فرصة التعليم الثانوي. وبحلول استقلال الكونغو عام 1960، لم يكن عدد خريجي الجامعات من المواطنين يتجاوز العشرين شخصًا.
- اغتيال لومومبا.. إجهاض حلم الاستقلال الحقيقي:
عندما نالت الكونغو استقلالها في 30 يونيو 1960م، كانت تحمل على كاهلها كل هذا الإرث الثقيل من الاستغلال والتشويه المؤسسي. وعندها بزغ نجم باتريس لومومبا كأول رئيس وزراء للبلاد؛ وهو زعيم كاريزمي ذو رؤية وحدويّة وقوميّة، وأحد أبرز رموز حركة التحرر الإفريقية.
كان لومومبا يطمح إلى استقلال حقيقي؛ استقلال لا يقتصر على رفع علم جديد، بل يمتد إلى السيطرة على الثروات الوطنية وتوجيهها لخدمة الشعب. لكن هذه الرؤية الراديكالية اصطدمت مباشرة بالمصالح البلجيكية والغربية التي كانت تسعى للحفاظ على هيمنتها الاقتصادية؛ خصوصاً المعادن الاستراتيجية في مقاطعة كاتانغا.
بعد أيام قليلة من إعلان الاستقلال، أعلنت كاتانغا، بقيادة مويس تشومبي وبدعم مباشر من الشركات البلجيكية والمخابرات الغربية انفصالها عن الدولة المركزية.
فوجد لومومبا نفسه في مواجهة مؤامرة دولية لإفشال دولته. وعندما لم يجد استجابة فعالة من الأمم المتحدة، والتي كانت قواتها على الأرض تتصرف بحياد سلبي يخدم الانفصاليين؛ ارتكب «خطيئته الكبرى» في نظر الغرب، وهو طلب المساعدة التقنية من الاتحاد السوفيتي في ذروة الحرب الباردة؛ كان هذا التحرك بمثابة حكم بالإعدام عليه. فتحركت الآلة الغربية بسرعة لإزالته من المشهد، وتم عزله من منصبه من قبل الرئيس جوزيف كاسا-فوبو، ثم أُلقي القبض عليه من قبل قوات الجيش بقيادة رئيس الأركان جوزيف ديزيريه موبوتو «لاحقاً موبوتو سي سي سيكو» الذي كان صنيعة الغرب.
وفي 17 يناير من عام 1961م تم نقل لومومبا جواً إلى كاتانغا، حيث تم تسليمه إلى ألد أعدائه، وهناك تعرض للتعذيب قبل أن يتم إعدامه رمياً بالرصاص، والتخلص من جثته بحمض الكبريتيك لإخفاء معالم الجريمة.
لقد كان اغتيال لومومبا، الذي تمّ بتآمر وتواطؤ مباشر من المخابرات البلجيكية والأمريكية، بمثابة عملية إجهاض متعمدة لحلم الكونغو في السيادة والوحدة، وأدخل البلاد في دوامة من الحروب الأهلية والانقلابات التي لم تخرج منها حتى يومنا هذا.
لاحقا قام موبوتو سي سي سيكو بقيادة إنقلاب عسكري في 24 نوفمبر 1965 ليغير اسم البلاد إلى زائير وهو اسم قديم لنهر الكونغو الذي يشق البلاد، ويعني النهر الذي يبتلع الأنهار الأخرى، وأعلن نفسه رئيسًا مدى الحياة، متحالفًا مع الولايات المتحدة وفرنسا وبلجيكا ضد النفوذ الشيوعي في إفريقيا، والتي ساعدته بدورها في تثبيت أركان حكمه.
لكن مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، تراجعت أهميته وفقد الدعم الغربي، مما أدى إلى تصاعد الضغوط نحو التحول الديمقراطي.
فقاد لوران- ديزيريه كابيلا، على رأس تحالف القوى الديمقراطية لتحرير الكونغو ثورةً عارمة، أطاحت بحكم الرئيس موبوتو سيسي سيكو في مايو 1997؛ معلنًا نهاية الحقبة الاستبدادية.
ومع انتهاء الحرب الأهلية الأولى أعاد كابيلا تسمية البلاد إلى «جمهورية الكونغو الديمقراطية».
لكن الوحدة الوطنية لم تدم طويلاً إذ سرعان ما تحوّل حلفاؤه السابقون إلى خصوم، فاندلعت حربٌ إقليمية مدمّرة ما بين (1998–2003)، عُرفت بـ»الحرب العالمية الإفريقية» شاركت فيها تسع دول، وتشابكت فيها مصالح سياسية واقتصادية معقدة.
حيث دعمت أنغولا وزيمبابوي وناميبيا نظام كابيلا، فيما سانَدت رواندا وأوغندا الحركات المتمردة؛ وكان أبرزها «التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية»، و»حركة تحرير الكونغو».
في يناير 2001، اُغتيل لوران كابيلا، فخلفه ابنه جوزيف كابيلا، الذي تولّى قيادة البلاد وسط تحديات جسيمة، ولكنه نجح عبر اتفاقيتي «صن سيتي» (2002) و»بريتوريا» التي أُبرمت عام (2003) في إنهاء النزاع تدريجيًا، وتشكيل حكومة انتقالية ضمّت المتمردين السابقين، مع انسحاب القوات الأجنبية من الأراضي الكونغولية.
في عام 2006، شهدت الكونغو أول انتخابات ديمقراطية في تاريخها، توّج فيها جوزيف كابيلا رئيسًا. وأُعيد انتخابه في 2011 وسط جدلٍ حول نزاهة العملية الانتخابية. تأجلت الانتخابات المقررة في 2016 حتى 2018، حين فاز فيليكس تشيسيكيدي، محققًا أول انتقال سلمي للسلطة في تاريخ البلاد.
وفي 2023، عزّز تشيسيكيدي موقعه بانتخابه مجددًا بأغلبية ساحقة؛ في خطوة عكست استقرارًا سياسيًا نسبيًا، رغم التحديات الأمنية والاقتصادية المستمرة.
- حركة M23.. عرض متجدد في مسرح الصراع:
تعتبر حركة «23 مارس» (M23) التجسيد الحديث والمعقد لهذه الدوامة من العنف والتدخلات الخارجية في الكونغو. ولفهم نشأتها يجب العودة إلى تداعيات الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994. حيث أدى فرار مئات الآلاف من الهوتو؛ بمن فيهم مرتكبو الإبادة الجماعية ضد التوتسي إلى شرق الكونغو (زائير آنذاك) إلى زعزعة التوازن الديموغرافي والسياسي الهش في المنطقة، وخلق توترات حادة مع مجتمعات التوتسي الكونغولية المعروفة بـ «البانيامولينغي».
استغلت رواندا وأوغندا هذا الوضع للتدخل عسكرياً في الكونغو تحت ذريعة ملاحقة مرتكبي الإبادة؛ مما أشعل حربي الكونغو الأولى والثانية.
ومن رحم هذه الفوضى، ولدت عدة حركات تمرد ذات طابع عرقي؛ كان أبرزها «المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب» (CNDP) وهي جماعة متمردة يقودها التوتسي بزعامة لوران نكوندا، وكانت تتلقى دعماً قوياً من رواندا.
في 23 مارس 2009، تم توقيع اتفاق سلام بين حكومة كينشاسا و(CNDP) نص على دمج مقاتلي الحركة في الجيش الكونغولي؛ لكن هذا الاتفاق لم يُنفذ بشكل كامل، حيث استمر التهميش والتمييز ضد الجنود المنحدرين من الحركة.
وفي أبريل 2012، تمرد هؤلاء الجنود بقيادة شخصيات مثل بوسكو نتاغاندا وسلطاني ماكينغا، وشكلوا حركة جديدة أطلقوا عليها اسم «حركة 23 مارس» (M23)، في إشارة إلى تاريخ اتفاق السلام الذي اتهموا الحكومة بانتهاكه.
شنت M23 هجوماً كاسحاً في عام 2012، وسيطرت لفترة وجيزة على مدينة غوما الاستراتيجية عاصمة إقليم شمال كيفو. لكنها هُزمت في عام 2013 بفعل هجوم مشترك للجيش الكونغولي وقوة تدخل خاصة تابعة للأمم المتحدة.
وبعد فترة من الهدوء النسبي، عادت الحركة للظهور بقوة في أواخر عام 2021، وبدأت في شن هجمات متصاعدة في عام 2022. لكن بدت الحركة هذه المرة أفضل تسليحاً وتنظيماً. وأكدت تقارير أممية متتالية أنها تتلقى دعماً عسكرياً ولوجستياً مباشراً من رواندا.
نجحت الحركة مجدداً في السيطرة على مناطق واسعة بما في ذلك مدن رئيسية، مُهدِدةً بتقسيم البلاد فعلياً وخالقةً أزمة إنسانية كارثية، ولكنها انزوت تدريجياً مرة أخرى.
في يناير 2025، وبدعم من رواندا المجاورة، عاودت الحركة نشاطها وسيطرت مجدداً على مساحات واسعة من شرق الكونغو.
إن عودة M23 ليست مجرد تمرد داخلي؛ بل هي جزء من لعبة إقليمية ودولية معقدة حول السيطرة على الموارد الهائلة في شرق الكونغو.
فمنذ وقت مبكر بعد اندلاع الحرب اقترح الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي بشكل علني صفقة تتيح للولايات المتحدة الأمريكية الوصول إلى مواردها المعدنية الغنية (مثل الكوبالت، النحاس، الليثيوم، والكولتان) مقابل تقديم دعم أمني وعسكري لمحاربة التمرد.
بدأت المحادثات الاستكشافية في فبراير 2025، وتم الإعلان عنها في مارس 2025.
وفي مايو 2025 نقلت صحيفة «فاينانشال تايمز» عن مسؤولين كونغوليين تفاؤلهم بإمكانية التوصل إلى اتفاق بحلول يونيو 2025، يشمل استثمارات أمريكية في المعادن ودعمًا لإنهاء التمرد.
- المنافسة الصينية- الأمريكية.. المعادن مقابل الأمن في القرن الحادي والعشرين:
في خضم هذه الأزمة الأمنية الخانقة، وجدت حكومة كينشاسا نفسها في موقف ضعيف، مما فتح الباب أمام نوع جديد من الصفقات الدولية. وهنا يبرز الاتفاق الكونغولي- الأمريكي كخطوة استراتيجية بالغة الأهمية، و لا يمكن فهمها إلا في سياق المنافسة الجيوسياسية المحتدمة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
فلعقود مضت رسّخت الصين وجودها في الكونغو وإفريقيا عبر استراتيجية «المعادن مقابل البنية التحتية» حيث تموّل بكين مشاريع ضخمة مقابل الحصول على امتيازات تعدين طويلة الأمد؛ وهي تسيطر الآن على حوالي 80% من أنشطة التعدين في جمهورية الكونغو. وقد أتاح هذا النهج للصين السيطرة على أجزاء كبيرة من سلاسل توريد المعادن الاستراتيجية العالمية، مثل الكوبالت والليثيوم، والتي تعد حيوية لثورة الطاقة النظيفة والصناعات التكنولوجية المتقدمة (مثل بطاريات السيارات الكهربائية، الإلكترونيات الدقيقة) إذ تنتج الكونغو وحدها أكثر من 70% من الكوبالت في العالم.
شكلت هيمنة الصين على هذا المورد قلقاً استراتيجياً متزايداً لواشنطن؛ وكرد فعل أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية مبادرة «شراكة المعادن من أجل الأمن» (Minerals – Security Partnership: MSP)، وهو تحالف من الدول الغربية يهدف إلى تأمين سلاسل التوريد للمعادن الحيوية وتقليل الاعتماد على الصين.
إنّ الاتفاق الذي يجري التفاوض حوله مع الكونغو هو التطبيق العملي لهذه الاستراتيجية؛ فالعرض الأمريكي واضح: تقديم دعم أمني مباشر ومتطور لحكومة الرئيس فيليكس تشيسيكيدي لمواجهة تمرد M23، بما في ذلك التدريب المتقدم، وتزويد الجيش الكونغولي بالمعدات والتقنيات الحديثة، وربما وجود مستشارين عسكريين على الأرض. وفي المقابل تحصل الشركات الأمريكية على وصول تفضيلي أو حصري إلى المناجم الاستراتيجية التي تهيمن عليها حالياً الشركات الصينية.
إنها مقايضة صريحة: الأمن الذي تحتاجه كينشاسا بشدة مقابل الموارد التي تحتاجها واشنطن بشدة لموازنة نفوذ بكين.
ما يحدث في الكونغو ليس مجرد صفقة تجارية أو اتفاق أمني، بل هو تجسيد حي لنظرية المفكر الاقتصادي المصري سمير أمين «التراكم على الصعيد العالمي» إذ يرى أمين أنّ النظام الرأسمالي العالمي ليس نظاماً متجانساً، بل هو مقسم بنيوياً إلى «مركز» مهيمن (الدول الصناعية المتقدمة) و»أطراف» تابعة (دول الجنوب) ولا يمكن فهم تطور المركز إلا من خلال فهم الآليات التي يتم من خلالها استغلال الأطراف و «تخلّفها».
هذا التخلّف ليس حالة بدائية أو تأخراً في النمو، بل هو نتاج نشط ومستمر لعملية النهب التي يمارسها المركز.
أحد المفاهيم الأساسية لدى أمين هو «التبادل غير المتكافئ» و لا يتعلق الأمر فقط بأنّ أسعار المواد الخام تميل إلى الانخفاض مقابل أسعار السلع المصنعة؛ بل بأنّ البنية الكاملة للاقتصاد في دول الأطراف مصممة لتلبية احتياجات المركز؛ فيتم إدماج هذه الدول في الاقتصاد العالمي كمنتجين ومصدرين للمواد الخام، مع منعها بنيوياً من تطوير قطاعات صناعية متكاملة وقادرة على المنافسة. وصفقة «المعادن مقابل الأمن» في الكونغو هي مثال نموذجي على هذه الآلية؛ فهي تكرس دور الكونغو كمجرد مزود للكوبالت والليثيوم، بينما تظل عمليات التكرير والتصنيع (التي تحقق القيمة المضافة الأعلى) حكراً على دول المركز أو القوى المتنافسة عليه.
تُدار هذه الموارد الحيوية عبر آليات تعاقدية ظاهرها الشراكة والمصلحة المشتركة، ولكن باطنها إعادة إنتاج علاقات السيطرة والتبعية القديمة بصيغ قانونية جديدة.
كما تشرح فرضية بريبيش- سينغر (Prebisch-Singer Hypothesis)، التي حللت منذ منتصف القرن العشرين تدهور شروط التبادل التجاري لصالح الدول الصناعية على حساب الدول المنتجة للموارد الأولية، مما يؤدي إلى اتساع فجوة التنمية بدلًا من تضييقها. وهو ما يتجلى عبر استمرار تدهور شروط التبادل لصالح الشركات والدول المتقدمة؛ إذ تحتفظ الشركات الأجنبية بحقوق استغلال طويلة الأمد للموارد مقابل عوائد مالية محدودة ومقيدة للشركاء المحليين، مما يكرس نمطًا تاريخيًا لفقدان القيمة في بلدان الإنتاج لصالح مراكز الاستهلاك الصناعي.
وعلى المستوى النظري، تُكرّس هذه الاتفاقات للتبعية البنوية؛ حيث تبقى الدول المنتجة عالقة في دور مزوِّد الخام، بينما تستفيد الدول الصناعية الكبرى من القيمة المضافة عبر التصنيع والتحكم في سلاسل التوريد العالمية.
فبدلاً من أن تستخدم الكونغو ثروتها المعدنية لبناء اقتصاد متنوع ومستقل؛ يتم استخدام هذه الثروة كورقة مساومة للحصول على حلول أمنية مؤقتة ومستوردة؛ مما يعمق من تبعيّتها.
إنّها حلقة مفرغة؛ فعدم الاستقرار (الذي غذته تاريخياً التدخلات الخارجية) يخلق حاجة للأمن، وهذه الحاجة تُستغل لانتزاع تنازلات في الموارد، وهذه التنازلات تمنع التنمية الحقيقية، مما يولّد المزيد من الفقر والهشاشة التي تغذي بدورها عدم الاستقرار. وهكذا، يتم إعادة إنتاج التبعية بأدوات جديدة، ظاهرها «الشراكة» وباطنها استمرار لنهب عمره قرون.
- الخروج من الدوامة.. التعاون جنوب - جنوب كأفق للمقاومة:
هل هناك مخرج من هذه الدوامة؟
الإجابة لا يمكن أن تأتي من داخل المنظومة التي تنتج التبعيّة نفسها.
فالأفق الحقيقي للمقاومة يكمن في بناء نماذج بديلة، وعلى رأسها تعزيز «التعاون جنوب - جنوب». فبدلاً من أن تتنافس الدول الإفريقية الغنية بالموارد فيما بينها لتقديم أفضل الصفقات للقوى الخارجية؛ يمكنها أن تتحد لتغيير قواعد اللعبة.
إنّ تشكيل تكتلات من الدول المنتجة للمعادن الاستراتيجية على غرار منظمة «أوبك» في قطاع النفط يمكن أن يمنحها قوة تفاوضية هائلة لفرض أسعار عادلة وشروط أفضل.
علاوة على ذلك، يجب أن يتجاوز التعاون مجرد تنسيق سياسات التصدير؛ حيث يجب أن يهدف إلى بناء سلاسل قيمة إقليمية وقارية. فبدلاً من تصدير الكوبالت الخام يمكن لدول مثل الكونغو وزامبيا أن تتعاون لبناء مصانع تكرير مشتركة، ثم تتوسع تدريجياً نحو تصنيع المكونات الأساسية للبطاريات.
ويمكن أن يتم ذلك عبر شراكات استراتيجية مع قوى أخرى من العالم الجنوبي تمتلك التكنولوجيا أو رأس المال، مثل دول الخليج العربي أو البرازيل أو الهند ولكن بشروط جديدة ومختلفة تضمن نقل التكنولوجيا وبناء القدرات المحلية.
بالطبع هذا الطريق ليس سهلاً؛ فهو يتطلب إرادة سياسية فولاذية لمقاومة الضغوط الهائلة من القوى العظمى والشركات متعددة الجنسيات، ويتطلب كذلك محاربة الفساد المستشري الذي يمثل البوابة الداخلية للاستغلال الخارجي؛ لكنه يبقى الأفق الوحيد الممكن للخروج من دور «الطرف» التابع.
إنّ مأساة الكونغو من عهد ليوبولد إلى صفقة المعادن مقابل الأمن، هي صرخة مدوية بأن مستقبل إفريقيا والعالم الجنوبي لن يُبنى على اتفاقيات اقتصادية تقوم على شراكات غير متكافئة؛ بل قدرتها على بناء استقلالها الاقتصادي وسيادتها الحقيقية على مواردها، وتحويل لعنة الثروة إلى نعمة للتنمية والنهضة.
اصدارات دورية
صفقة المعادن مقابل الأمن في الكونغو.. تفاعل إرث الاستغلال ودوامات التبعية
09/08/2025

أخبار حديثة
- 17/08/2025رويترز: جنوب السودان يناقش مع إسرائيل تهجير فلسطينيين إلى أراضيه
- 17/08/2025تخفيضات التمويل تهدد جهود وقاية أطفال أفريقيا من الملاريا
- 17/08/2025مالي تعلن إحباط مخطط لزعزعة البلاد بدعم دولة أجنبية
- 17/08/2025الاتحاد الأفريقي يدعو لاعتماد خريطة "الأرض المتساوية" إنصافا للقارة
- 17/08/2025مطار بيشوفتو الإثيوبي.. خطوة نحو الريادة الجوية الأفريقية
- 17/08/2025إدارة ترامب تدرس تحديد سقف اللاجئين ومنح الأفريكانيين الأولوية