المركز الأفريقي للاستشارات African Center for Consultancy

اصدارات دورية

الإمبريالية الجديدة و "تسليح" الاستثمار في إفريقيا

09/08/2025
الإمبريالية الجديدة و "تسليح" الاستثمار في إفريقيا

التيجاني عبد القادر حامد
22 يوليو 2025
(1) مقدمة:
شهدت السنوات التالية لمؤتمر برلين (1848) ما عرف تاريخياً بظاهرة الهرولة إلى إفريقيا (the scramble for Africa)؛ حيث قُطّعت تلك القارة إلى محميات ومستعمرات، وألحقت كل واحدة منها بدولة أوروبية كبيرة. أمّا وقد مضت الآن قرابة المائتي عام على تلك الهرولة الإمبريالية الكبرى، وحدث فيهن ما حدث من خطوب وحروب، فقد يكون من المناسب أن نتساءل: كيف حدث ذلك؟ وماذا يمكن أن نفعل حتى لا يحدث مرة أخرى؟
(2) الهرولة الإمبريالية الأولى نحو إفريقيا:
يجب أن نتذكر أنّ المهرولين الأوائل كانوا يركضون خلف «الاستثمارات الخارجية» وكانت مزاعمهم الاقتصادية أنّ مدخراتهم الضخمة المركزة محلياً لن تجد استثمارات مريحة في نطاقها المحلى، ولا مناص لهم - مِن ثمّ- سوى البحث عن فرص في الأماكن النائية. ولتحقيق ذلك الهدف فقد صاروا يطابقون بين أهدافهم الخاصة والأهداف الوطنية العامة، ويزعمون أنّه لمن مصلحة الوطن أن تُفتح له أسواق جديدة وأن تُضم إليه بلدان شاسعة. وأنه مهما كانت عملية «الضم» هذه مكلفة وخطرة إلا أنها ضرورية لبقاء الأمم وتقدمها. وأنّ الأمة التي لا تقدم على ضم الأراضي ستفسح المجال لأمم أخرى أكثر جرأة فستستولى على الموانئ والأسواق، وستضيق سبل التجارة؛ وربما تسد المنافذ التي يحصل الآخرون من خلالها على ما هو ضروري من الطعام والمواد الخام.
وكان المهرولون لا يبالون بالطبع إن أُطلقت صفة «الإمبريالية» على هذه العملية؛ إذ يرونها إمبريالية ضرورية، وأنّ على دولهم أن تستخدم دبلوماسيتها (وسلاحها) لتأمين هذه الأسواق وتطويرها.
وقد دلت التجربة بالطبع على أن الحرب هي واحدة من أقرب الطرق لتأمين هذه الأسواق وتطويرها، حتى ولو ترتب على ذلك تحويل البلدان الإفريقية إلى مقاطعات تحت الحماية، أو تحويلها إلى مستعمرات كاملة الخضوع.
وبهذه الطريقة نشأت الإمبريالية الكلاسيكية التي تحولت إلى استعمار كامل السيطرة.
(3) المهرولون الجدد:
فإذا تبيّن من هذا (كيف ولماذا) حدثت تلك الهرولة الأوروبية الأولى إلى إفريقيا، واستبانت نتائجها الكئيبة، فإنّ الأسئلة المؤرقة ستكون: هل سيعود المهرولون القدامى أم سيظهر على المسرح الإفريقي «مهرولون جدد»؟ وسواء عاد هؤلاء أو أولئك أو عادوا معا؛ فهل سيعودون في هيئة العسكري المستعمر أم في صورة الرأسمالي المستثمر؟ وهل ستشهد القارة السمراء نهضة اقتصادية على أيديهم أم سيزداد سكانها فقراً (علماً بأنّ ثلث سكانها الآن يعيشون تحت خط الفقر المدقع- بحسب تقارير البنك الدولي)؟
لا نود في هذا المقال- ولا نستطيع - الإحاطة بظاهرة الهجمة الرأسمالية الحديثة نحو إفريقيا، ولا بأعداد وأغراض الدول والشركات التي تبحث عن استثمارات سهلة ومعادن نفيسة وعمالة رخيصة، فهي كثيرة العدد ومتنوعة الجنسيات ومتباينة الأهداف والوسائل. سنكتفى بالحديث عن دولة الإمارات كمثال لدولة صغيرة ناشئة وهي تسابق الآخرين في الهرولة نحو إفريقيا، حتى صار لها موقع مرموق في مجال التوازنات التجارية العالمية.
وحديثنا عن توجه الإمارات نحو القارة الإفريقية لا يتضمن إنكاراً لحقها في أن تخطط وتعمل بجد لتعظيم مصالحها الاقتصادية في إفريقيا وغيرها من الدول؛ وإنّما يتضمّن محاولة لفهم طبيعة الدور الجديد الذي تضطلع به من خلال سياساتها الاستثمارية في إفريقيا، ومدى تأثير تلك السياسات على الأوضاع في تلك القارة.
(4) الإمارات في إفريقيا:
يلاحظ المراقبون أنّ دولة الإمارات العربية المتحدة تبنت منذ عقدين من الزمان استراتيجية اقتصادية توسعية في إفريقيا، اتخذت شكل استثمارات ضخمة في قطاعات متنوعة؛ تتراوح بين البنية التحتية والطاقة والغذاء والأمن والسلاح. وكأنّ هذه الاستثمارات لامست عصبا حياً في بعض الاقتصاديات العالمية الكبرى، فقد صارت تتصدر العناوين البارزة في الصحف العالمية، إذ تصف صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية كيف أنّ «الإمارات تُدفّق المال في إفريقيا بحثاً عن الموارد».
أمّا صحيفة الفاينانشيال تايمز البريطانية فقد نشرت تقريراً موسعاً عن «النفوذ الإماراتي المتنامي في إفريقيا» أشارت فيه إلى أنّ الإمارات تعهدت في عامي 2022-2023 بفتح استثمارات إفريقية بمبلغ 97 مليار دولار في مجالات الطاقة المتجددة والموانئ، والتعدين والعقارات، والاتصالات، والزراعة والتصنيع؛ أي ثلاثة أضعاف ما تعهدت به الصين.
كما تشير مصادر عديدة إلى أن الإمارات تحصلت على أرضٍ زراعية في مصر والسودان وكينيا والمغرب وناميبيا وسيراليون ويوغندا وتنزانيا؛ فيما يشبه سياسة قضم الأراضي (land grabbing).
وتشير المصادر إلى استراتيجية «سلسلة الموانئ» التي تتبعها الإمارات؛ حيث تمكنت من خلال الاتفاقات الثنائية (أو الشراء) أن تستحوذ على إنشاء وإدارة ما لا يقل عن 12 ميناءً على السواحل الإفريقية.
أمّا في مجال المؤسسات المالية فتكفي إشارة إلى مدى توسعها في مصر مثلا، حيث يلاحظ أحد الاقتصاديين أن الإمارات قد توسعت في مصر بصورة غير مسبوقة على مدار العقد الأخير، وأصبحت مساهمة في خمسة من أهم البنوك العاملة في السوق المصرية، واستحوذت على مؤسسات مالية أخرى، واقتحمت سوق العقارات والصحة وتملّكت الفنادق.
ولم يكن مشروع رأس الحكمة المعروف في الصحافة الغربية بمشروع إنقاذ مصر إلا واحدة من حلقات التمدد الإماراتي الاقتصادي في أرض المحروسة.
وقد تضافرت بالطبع عدة عوامل- بعضها داخلي وبعضها خارجي- جعلت الإمارات تتعجل السير في هذا الاتجاه، ويأتي على رأس العوامل الداخلية هدفها المشروع المتمثل في تنويع مصادر دخلها بعيداً عن النفط؛ مما يستلزم الاستثمار في الزراعة والطاقة، وإقامة شبكات لوجيستية عبر الموانئ والمطارات.
أمّا العوامل الخارجية فتتمثل في حالة الانكفاء على الداخل لبعض الدول الكبرى، وهشاشة الأوضاع الاقتصادية والسياسية في معظم الدول الإفريقية وضعف حكوماتها، وتمدد الثورات العربية وتصاعد الخطاب الثوري بصفة عامة، وتزايد الطلب على الغذاء والطاقة.
ولا يوجد اعتراض كما ذكرنا على المشاريع الاستثمارية التي تتبع للإمارات في إفريقيا أو غيرها، ولكن الاعتراض يأتي من جهة «الأهداف» السياسية التي تسعى لتحقيقها، كما يأتي من جهة «الأدوات» التي تستخدمها؛ إذ يلاحظ المراقبون أنها عادة ما تتجه للجمع بين أدوات الاستثمار الاقتصادي والحضور الأمني والعسكري وعقد التحالفات مع الفاعلين السياسيين، والعسكريين؛ سواء كانوا في الحكومات أو في المعارضة. أي أنّ استثماراتها في إفريقيا سرعان ما تتحول من مجال الاقتصاد إلى مجالات الأمن والدفاع.
فهي في تعاملها مع الدول الإفريقية الهشة لا تسعى لشراء الأراضي وتشييد الموانئ فحسب؛ وإنما تسعى لبناء «جدران من المال» يسمح لها بتشكيل القوى السياسية في داخل هذه الدول، ويسمح لها بترفيع القيادات والرؤساء الذين يخدمون أهدافها- كحالة الرئيس السيسي في مصر، وأبي أحمد في إثيوبيا، وخليفة حفتر في شرق ليبيا، ومحمد حمدان دقلو في السودان، وكحالة آخرين في تشاد وجنوب السودان ويوغندا وكينيا.
ولا شك أن «تسليح الاستثمار» هذه مسألة بالغة الأهمية، وتوجد أمثلة صارخة لها في كل من المشهد الليبي والشادي والإثيوبي والسوداني، كما نوضح فيما يلي.
(5) «تسليح» الاستثمار:
- ليبيا:
بعد سقوط نظام العقيد القذافي، وما لحق ليبيا من حالات الفوضى والانقسامات المناطقية والسياسية؛ راهنت الإمارات على خليفة حفتر لضمان مصالحها ومدته بالمال والسلاح.
ويذهب بعض الباحثين المختصين في هذا الشأن إلى القول بأن الإمارات لم تدعم حفتر بشراء العتاد وحسب؛ وإنما اشترت له جيشا من المرتزقة وبعض فلول النظام السابق وعصابات المجرمين ووفرت له المستشارين والمدربين وأمّنت له القواعد العسكرية، أي أنها صنعت لها محمية في منطقة استراتيجية من الأراضي الليبية تطل من خلالها على المثلث النفطي على شواطئ البحر المتوسط، وتتحكم من خلالها على النظم الحاكمة في تشاد والسودان وتغازل بها النظام المصري.


  • تشاد:
    أمّا عن التمدد الإماراتي في تشاد المجاورة؛ فقد أبرمت اتفاقية تعاون عسكري (إماراتي- تشادي) في يونيو، 2023م وقدمت بموجبها آليات عسكرية ومعدات أمنية إلى تشاد؛ لتمكينها من تعزيز قدراتها في مجال مكافحة الإرهاب (كما يُقال) ودعم برنامج حماية الحدود. وصارت تشاد تتلقى منذئذ نظم الدفاعات الجوية الصينية الصنع من طراز صاروخ أرض جو (FK-2000). ولا يخفى بالطبع الدور الذي تقوم به تشاد من إيصال العدة والعتاد إلى قوات الدعم السريع عبر مطار أم جرس.
    - إثيوبيا:
    يعود اهتمام الإمارات بإثيوبيا لأمور تتعلق بأهدافها الجيوسياسية والأمنية، وبرغبتها في تأمين الموانئ المشاطئة للبحر الأحمر والمطلة على القرن الإفريقي. ولذلك فما إن صعد أبي أحمد إلى السلطة في عام 2018 حتى سارعت الإمارات إلى منحه 3 بلايين دولار تعزيزاً لبرنامجه الاقتصادي، ولمواجهة النقص المريع في العملة الأجنبية.
    ولكن سرعان ما تحول ذلك الدعم إلى مجالات التجارة والمساعدات العسكرية المباشرة؛ مِن تدريب للقوات وإمداد بقطع السلاح.
    وعندما كان مقاتلو جبهة تحرير تغراي الشعبية على مشارف العاصمة أديس أبابا عام 2021، وكانت حكومة أبي أحمد على حافة السقوط؛ سارعت الإمارات بتزويد حكومته بطائرات بدون طيار ليتمكن من سحق قوات التغراي، وإنقاذ نظامه من السقوط.
    - السودان:
    أمّا في حالة السودان، فإنّ العلاقة بين حميدتي والإمارات تعود إلى عام 2015 حينما شاركت قوات الدعم السريع في «عاصفة الحزم» التي شنّتها الإمارات والمملكة العربية السعودية على الحوثيين في اليمن.
    واهتمت الإمارات بتعزيز هذه العلاقة لسبب اقتصادي وآخر سياسي؛ أمّا السبب الاقتصادي فيعود إلى سيطرة حميدتي على كميات هائلة من الذهب في إقليم دارفور، والذي يتم تهريبه عن طريق شركات حميدتي إلى الإمارات.
    أمّا السبب السياسي فيرجع إلى رغبة الإمارات في استخدام القوات العسكرية التي تتبع لحميدتي في القضاء على ما تراه الإمارات «إسلاماً سياسياً» يجب قطع دابره.
    وحينما اندلعت الحرب بين قوات حميدتي والقوات المسلحة السودانية انحازت الإمارات إلى قوات حميدتي وأمدته بالسلاح- تماما كما فعلت في حالة العقيد حفتر في ليبيا والرئيس أبي أحمد في إثيوبيا.
    وتحت عنوان: «الإمارات تتحدث عن السلام في السودان بينما هي تغذي الحرب في السودان» كشفت صحيفة نيويورك تايمز كيف «أنّ حليفاً للولايات المتحدة يستخدم الإغاثة كغطاء للحرب». ورغم أنّ الإمارات تنكر إمداد قوات الدعم السريع بالسلاح إلا أنّ تقرير لجنة من خبراء الأمم المتحدة (نُشِرت بعض نصوصه في صحيفة الغارديان البريطانية) يؤكد وجود انطلاق منتظم لطائرات الشحن التي ظلت تنتقل- أثناء الحرب- من الإمارات إلى تشاد، كما وثقت تلك اللجان الطرق البرية التي استخدمت لنقل الأسلحة من تشاد إلى السودان.

  • (6) لماذا تلجأ الإمارات لتسليح الاستثمار في أفريقيا؟
    لقد كانت النظم الإمبريالية السابقة تجرد عساكرها للتمدد أو الاستيطان القسري في إفريقيا (وغيرها) لواحد من ثلاثة عوامل: التخفيف من الاكتظاظ السكاني لديها؛ إيجاد أسواق لتصريف سلعها ومصنوعاتها؛ أو لجلب الخامات لمصانعها- وكل ذلك مع ثقتها البالغة في تفوقها العسكري. أمّا في حالة دولة الإمارات فبعض هذه العوامل لا توجد لديها، فيدفعها من ثمّ نحو التمدد العسكري في إفريقيا. فعدد سكانها- مثلاً- لا يتجاوز المليون الواحد، وعدد قواتها المقاتلة ليس بكبير ولا خطير. أمّا من حيث الأسواق فإن الدول الإفريقية المستهدفة هي من أفقر دول العالم ولا يتجاوز دخل الفرد في بعضها بضعة دولارات في اليوم الواحد. فلا يبقى والحالة هذه غير الرغبة في الأراضي الزراعية الشاسعة والمعادن النفيسة. فكأن دافع الإمارات للاتجاه نحو إفريقيا لا يتعدى قضم الأراضي والاستيلاء على الذهب؛ وهو ما تؤكده التقارير التي تشير إلى أن 66.5% من ذهب إفريقيا يُهرَّب (أو يُصدَّر) إلى الإمارات.
    على أنّ كل ما سبق من القول لا يوضح السبب الذي يجعل الإمارات تقرن استثماراتها في إفريقيا بالعتاد العسكري؟ هل لأن القارة الإفريقية موبوءة بالتوترات المزمنة والصراعات الأهلية ولا تتوفر فيها بيئة صالحة للتعاون التجاري السلمي، أم لأنّ الإمارات تستفيد من مناخ النزاعات والانقسامات المجتمعية- حيث تعاني الدول من عجز مزمن، وتضطرب فيها النظم الاقتصادية والقانونية، وتنشط فيها المعارضات العسكرية والمليشيات المسلحة؟ وهل ذلك هو ما يغرى الإمارات أن تبسط سيطرتها حيناً على المعارضات في تلك الدول، وحيناً على بعض حكوماتها، فتتحول العلاقة بين الجانبين من التبادل التجاري إلى التدخل العسكري، ومن مقايضة الذهب بالغاز إلى مقايضة الذهب بالسلاح؟ وما علاقة الإمارات بصناعة السلاح وتصديره؟

  • (7) من تصدير النفط إلى تصدير السلاح:
    تشهد الإمارات مرحلة من الاندفاع الشديد نحو الصناعة الحربية (خاصة في مجالات التكنولوجيا العسكرية المتقدمة والذكاء الصناعي) وتخصص لتلك المشاريع مبالغ مالية ضخمة. وقد جاء في تقرير معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) أن الإنفاق العسكري العالمي في عام 2024 بلغ 2.72 ترليون دولار، مرتفعاً بنسبة 9.4% عن العام السابق، وأن نسبة مبيعات شركات السلاح العالمية قد ارتفعت إلى 8.5% ويشير التقرير إلى أن أكبر المستوردين لهذه الأسلحة هي دول الجنوب. ولكن ما يلفت الانتباه في هذا التقرير هو بروز مجموعة إيدج (Edge) الإماراتية ضمن قائمة أعلى 25 شركة عالمية لتصدير الأسلحة، مع أنّ الإمارات دولة صغيرة ولا تعرف بأنّها تمتلك جيشاً كبيراً أو تدخل في حروب طويلة. فما هي مجموعة (إيدج)، وما الدور الذي تقوم به في تصنيع الأسلحة؟ وما هي «الأسواق» التي تستهلك الأسلحة الإماراتية؟
    تشير التقارير إلى أن إنفاق الإمارات على الدفاع بلغ في عام 2025 حوالي 32.5 مليار دولار. وهي تهدف من ناحية عامة إلى بناء قدراتها العسكرية وصناعاتها الدفاعية على الذكاء الصناعي- من تصنيع للمتحركات ذات التسيير الذاتي، وإدارة للحروب الإلكترونية وتحليل المعلومات الاستخباراتية. وبناء على ذلك فقد أنشأت الدولة الإماراتية (2019) مجموعة إيدج الدفاعية (Edge Group) لتتولى قطاع الصناعات العسكرية. وفي فترة قصيرة نسبياً صارت مجموعة (إيدج) واحدة من ضمن أكبر 25 شركة في العالم للتصديرات العسكرية؛ ومن بين منتجاتها الطائرات بدون طيار، والطائرات المُسيّرة الهجومية الذكية للكشف عن مصادر التشويش، والصواريخ المضادة للسفن. كما تعمل في مجال الحرب الإلكترونية والاتصالات الأمنية.
    وتهدف الإمارات من وراء هذه الخطوة- بحسب إفادة نائب الرئيس للاستراتيجية والتميز بالمجموعة- لتحقيق الاستقلال التكنولوجي وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية للقدرات الدفاعية. كما تهدف من ناحية أخرى لتطوير قاعدة صناعية دفاعية من خلال إدخال تقنيات الثورة الصناعية الرابعة وتطويرها.
    وفي إشارة إلى أهمية الحرب الإلكترونية في الاستراتيجيات العسكرية الحديثة؛ أوضح النائب أن شركة (سجنال) إحدى شركات (إيدج) توفر عدداً من المنتجات التي تدعم اكتشاف اتصالات العدو، وإشارات الرادار واعتراضها والتشويش عليها؛ مما يشكل ميزة كبيرة في الهيمنة على الطيف الكهرومغناطيسي.
    ويؤكد في المقابلة ذاتها بأن الإمارات قد اشتهرت تاريخياً باستيراد المنتجات الدفاعية، ولكنها تتطلع الآن إلى التحول إلى لاعب يستثمر، ويصدر المنتجات العسكرية.
    وفى الإجابة عن سؤال «الأسواق» التي تستهدفها شركة (إيدج) غير السوق المحلية والخليجية أجاب - بلا أدنى تردد- بأنّ الشركة تستهدف الدول في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.

  • (8) خاتمة: من الإمبريالية الفرعية إلى الإمبريالية الناشزة (recalcitrant imperialism):
    ظل الباحثون المُنظِّرون في حقل الاقتصاد السياسي يترددون في وصف الدولة الخليجية الغنية التي لا موارد لها غير النفط؛ فظل بعضهم يتمسّك بمفهوم «الدولة الريعيّة» الذي اقترحه الكاتب الإيراني حسين مهداوي في بداية السبعينيات من القرن الماضي؛ حيث تصاب الدولة بلعنة الموارد (أي أن يوفر لها النفط طفرة في النمو دون أن يصاحبها إنتاج حقيقي أو تنمية بشرية، فتتحول العلاقة بين المواطن والدولة إلى علاقة زبونية).
    بينما تمسك آخرون بنظرية «التبعيّة» التي سار عليها سمير أمين وزملاؤه؛ معتبرين أنّ دول العالم الثالث- سواء كانت ريعية أو غير ذلك- هي في معظمها دول تابعة للنظام الرأسمالي العالمي، ولن تتحقق لها تنمية حقيقية إلا بعد الانفكاك من ذلك النظام.
    وسيراً على هذا المنوال قام المفكر الماركسي البرازيلي- روى مورو ماريني- ببلورة مفهوم الإمبريالية الفرعية (sub-imperialism)؛ وهي في تقديره دولة هامشية، ولكنها تستطيع بطريقةٍ ما أن تركز رأس المال المحلي وتمركزه (على نسق الرأسماليات المتقدمة)، وتمارس- من ثمّ- نمطاً من الإمبريالية داخل نطاقها المحلى- الإقليمي، ولكنها تظل تعتمد - في الوقت ذاته- على قوة إمبريالية مركزية كبرى في الخارج (كالولايات المتحدة الأمريكية مثلاً).
    وكما حاول ماريني تطبيق هذا النموذج على حالة البرازيل وبعض دول أمريكا اللاتينية، وحاول آخرون تطبيقه على إسرائيل؛ فقد حاول الباحث حسام عثمان محجوب تطبيقه على حالة دولة الإمارات في بحث مطول بعنوان: «الدور الإمبريالي الفرعي للإمارات العربية في إفريقيا».
    وقد أخذ محجوب يعدد نمط الاستراتيجيات التي تسير عليها الإمارات في استثماراتها في إفريقيا؛ من استراتيجية السيطرة على الموانئ، إلى قضم الأراضي الزراعية، إلى نهب المعادن، إلى التدخلات العسكرية المباشرة وغير المباشرة.
    وانتهى محجوب في هذا البحث إلى أنّ هناك مطابقة تامة بين الحالة الإماراتية ومفهوم الإمبريالية الفرعية.
    ونحن إذ نشيد بالجهد التنظيري الذي بذله محجوب، وإذ نلاحظ مثله حالة التقارب اللافت بين مفهوم «الإمبريالية الفرعية» والحالة الإماراتية في إفريقيا؛ إلا أننا نرى أنّ السياسات التي تتبعها الإمارات الآن، والأدوار التي تقوم بها؛ تتجاوز مفهوم «الإمبريالية الفرعية». فهذا المفهوم لم يعد يحيط بحالة الإمارات إحاطة تامة، ولا يفسرها من ثمّ تفسيراً قاطعاً؛ وذلك لعدد من الأسباب نذكرها فيما يلي:
    السبب الأول: أنّ حالة الإمارات الراهنة لا تشبه في كثير من الوجوه حالة الدولة «الهامشية» التي تعتمد تماماً على قوة إمبريالية مركزية في الخارج. فإذا استثنينا القدرات العسكرية النووية التي تمتلكها الدول الرأسمالية الكبرى فمن الممكن أن يقال إنّ هناك «حاجة متبادلة» فبعض هذه الدول تحتاج إلى الإمارات مثل حاجة الإمارات إليها. ولا يعني هذا أنّ الإمارات قد صارت «ندا» للدول الكبرى، ولكن يعني أنّ بعض الدول الكبرى قد «تصاغرت» لدرجة تجعلها تخطب ود الإمارات في كثير من المواقف الاقتصادية واللوجيستية، أو تغض الطرف عن تصرفاتها وتحالفاتها.
    السبب الثاني: هو أنّ الإمارات (من خلال صناديقها السيادية) قد صارت لها استثمارات كبيرة في الدول الأوروبية والأمريكية، فتمكنت من الاستحواذ على أسهم عالية في كثير من الشركات العالمية الكبرى؛ وهذه الاستثمارات الكبيرة تسهم بلا شك في دعم الاقتصاديات الأوروبية والأمريكية، وتعزز الناتج المحلي، وتوفر فرص عمل لامتصاص البطالة؛ فتخفف من ثمّ الضغط على الميزانيات العامة لهذه الدول، وعلى التوازنات الانتخابية فيها. وحينما نظر بعض الباحثين إلى التأثير السياسي للعلاقات التجارية بين الإمارات وفرنسا مثلاً؛ صاروا يخشون على فرنسا (وهي دولة إمبريالية مركزية) أكثر من خشيتهم على الإمارات، وصاروا ينصحون فرنسا بألا تكون «سجيناً» لشراكاتها التجارية مع الإمارات (وهي دولة هامشية).
    السبب الثالث: إنّ الإمارات لم تعد ترى نفسها دولة هامشية تابعة - كما يتصور البعض- وإنّما ظلت تعمل- منذ عام 2017- على تعزيز مكانتها كمركز عالمي للثورة الصناعية الرابعة. فهذه الاستراتيجية الصناعية الرابعة التي تسير عليها، وما يترتب على ذلك من قدرات تكنولوجية «مستقلة» (كما تعكسه منتجات الصناعة الدفاعية الذي عرضنا وصفاً له فيما سبق) سيجعل منها قوة إمبريالية في محيطها الإقليمي- بلا شك، فضلاً عن أنها لن تظل مجرد دولة هامشية «تابعة» في المحيط العالمي- كما يفترض النموذج- وإنما ستبرز كقوة إمبريالية «ناشزة» في المحيط الدولي- كما نحاجج في هذا البحث.
    السبب الرابع: إنّ الاستثمارات الإماراتية في إفريقيا ستتطور في اتجاه الإمبريالية الكلاسيكية، ولا يوجد ما يدعو للقول بأنّها «إمبريالية جديدة» لولا أنّ الأفارقة القدامى كانوا يقاومون الدول الإمبريالية، ويسعون إلى «التحرر» منها. أمّا الحكومات الإفريقية الراهنة فيعاني معظمها من عدم المشروعية، ويستشري فيها الفساد، وتتضاءل فيها فرص التنمية؛ بل إنّ كثيراً من القادة الأفارقة الجدد يهرعون إلى الدول الإمبريالية فيجدون عندها الحماية.
    وتشير بعض التقارير إلى أنّ عدد الشركات الإفريقية المسجلة في دبي يزيد عن 26 ألف شركة، ما يسمح للأثرياء الأفارقة أن يُهرِّبوا أموالهم إلى الإمارات متى شاءوا، فيجدوا فيها ملاذاً آمناً يتمكنون فيه من شراء العقارات وإبرام الصفقات، وتتمكن فيه الدولة المضيفة من شراء الولاء، وتشكيل وإعادة تشكيل القوى السياسية، والتحكم في الحكومات الإفريقية كما تشاء.
    وهكذا، وبناءً على ما سبق، يمكن القول بأنّ الإمارات ماضية استراتيجياً نحو التصنيع الحربي وتصدير الأسلحة؛ وأنّها تنظر إلى الدول الإفريقية كواحدة من أهم أسواقها؛ ومنها أنّها تسعى للتحوّل من دولة إمبريالية تابعة إلى دولة إمبريالية «ناشزة» - قريباً من الحالة الإسرائيلية.
    وهنا ستبرز أمامها معضلات وأسئلة صعبة؛ من شاكلة تلك الأسئلة: هل أن «تسليح الاستثمار» في إفريقيا هو الطريق الذي لا طريق غيره للاستثمار؟ وماذا لو فشلت استراتيجية التسليح؟ وماذا لو طال أمدها وامتدت إلى غيرها من دول الجوار؟ وماذا لو جرّت إليها أطرافاً أخرى ممّن تهددت مصالحهم العليا وأمنهم القومي (كالسعودية مثلاً ومصر وتركيا)؟ وإذا استطاعت - من خلال عسكرة الاستثمار (قضم الأراضي الإفريقية ودعم المليشيات)- أن تفرض سيطرتها على بعض الدول الأفريقية الغنية بالموارد الطبيعية! فهل ستتمكن كذلك من إنشاء بنية اقتصادية- عسكرية مستقلة في إفريقيا- بعيداً عن هيمنة المراكز الإمبريالية الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً؟) وكيف ستحتفظ بعلاقاتها مع الصين دون أن يؤثر ذلك على علاقاتها بالولايات المتحدة؟ علماً بأنها قد وقّعت مع الصين على مبادرة الحزام والطريق (The Belt and Road Initiative)، بمبلغ 3.4 بليون دولار، وهي مبادرة تهدف لتعظيم الاقتصاد الصيني بجعل ميناء جبل علي مركزاً رئيساً (ينفتح على البر والبحر) لنقل السلع الصينية، حيث تعبر 60% من الصادرات الصينية إلى كل أقاليم العالم من خلال الإمارات. وكيف ستحتفظ بعلاقاتها مع الولايات المتحدة وهي تعزز علاقاتها مع روسيا، بل وتمثل مركزاً (لإعادة تدوير) السلع الروسية إلى الأسواق الآسيوية والإفريقية، رغم تصاعد العقوبات الأمريكية على روسيا؟
    إنّ الإجابة عن مثل هذه الأسئلة وغيرها تتطلب إرادة ورؤية لا يوفرهما الذكاء الصناعي، وقد يكتشف قادة الإمارات أنه ليس متاحاً لهم الانطلاق في مشاريعهم التوسعية، والخروج من قبضة المراكز الإمبريالية الكبرى، إلا بالدخول - طوعاً أو كرهاً- في قبضة نظام أمني اقتصادي تكون إسرائيل مركزه الرئيس - مع ما يتولد عن ذلك من مخاطر وجودية في نطاقهم المحلي والإقليمي.

آفريكا فُوْكَس - العدد (11) - أغسطس2025 م