المركز الأفريقي للاستشارات African Center for Consultancy

تقدير موقف

نهاية الوجود العسكري الفرنسي الدائم في السنغال والتراجع الأوسع لحضور باريس في أفريقيا

30/07/2025
نهاية الوجود العسكري الفرنسي الدائم في السنغال والتراجع الأوسع لحضور باريس في أفريقيا

المركز الإفريقي للاستشارة

 

مقدمة

في لحظة رمزية ومؤثرة، أعلنت فرنسا في 17 يوليو 2025 نهاية وجودها العسكري الدائم في السنغال، بعد أكثر من ستة عقود من التمركز الاستراتيجي غرب أفريقيا. وجاءت الخطوة عبر تسليم رسمي لقاعدة "كامب جاي" ومرافق مطار دكار العسكري إلى الحكومة السنغالية، بحضور مسؤولين عسكريين رفيعين من الجانبين. يشكل هذا الحدث تتويجاً لسلسلة انسحابات متتالية لقوات باريس من الساحل وغرب أفريقيا، معلناً أفول حقبة طويلة من النفوذ العسكري الفرنسي المباشر، وبداية فصل جديد من العلاقات بين فرنسا ودول ما بعد الاستعمار.

 

أولاً: من "كامب جاي" إلى الخروج الكامل من السنغال

لم يكن الإعلان عن إنهاء الوجود الفرنسي وليد لحظة، بل جاء تتويجاً لقرار سياسي اتخذه الرئيس السنغالي باسيرو ديوميه فاي في نهاية عام 2024، طالب فيه بسحب جميع القوات الأجنبية من البلاد بحلول عام 2025. في الأشهر التي تلت ذلك القرار، بدأت فرنسا تنفيذ خطة انسحاب تدريجية، شملت إغلاق قواعد استراتيجية في دكار مثل "مارشال"، و"سانت إكزوبيري"، و"كونتر أدميرال بروتي"، وصولاً إلى "روفسك" التي أُغلقت في الأول من يوليو.

وكانت قاعدة "كامب جاي" آخر المواقع التي أُخليت، حيث جرى حفل تسليمها في منتصف يوليو بحضور قائد القيادة الفرنسية في السنغال الجنرال باسكال إياني ونظيره السنغالي الجنرال مباي سيسي.

وكانت وحدة "العناصر الفرنسية في السنغال"، التي تأسست رسميًا في 2011، تضم نحو 350 جنديًا، وقد أُعيد نشر أفرادها تدريجياً خلال الربع الثاني من عام 2025، وفقاً لتقارير صحفية فرنسية وأفريقية.

 

ثانياً: سلسلة الانسحابات المتتابعة من الساحل وغرب أفريقيا

لم تكن السنغال سوى الحلقة الأخيرة في سلسلة انسحابات عسكرية فرنسية شملت عدة دول إفريقية خلال الأعوام الثلاثة الماضية. ففي عام 2022، أعلنت باريس إنهاء عملية "برخان" التي كانت تستهدف الجماعات الجهادية في مالي، بعد تدهور علاقاتها مع المجلس العسكري في باماكو. تبع ذلك انسحابها من بوركينا فاسو في فبراير 2023، حيث تم إجلاء حوالي 400 جندي بطلب من حكومة المرحلة الانتقالية هناك.

وفي النيجر، شكّل انقلاب يوليو 2023 نقطة تحول جديدة، إذ رفض النظام الجديد استمرار وجود نحو 1500 جندي فرنسي، ما أدى إلى مغادرتهم نهاية العام ذاته. ولم يمضِ وقت طويل حتى لحقت تشاد بالركب، حيث أعلنت أواخر 2024 انتهاء العمل باتفاقية التعاون الدفاعي مع باريس، لتنسحب القوات الفرنسية بالكامل بحلول يناير 2025.

حتى كوت ديفوار، التي ظلت لسنوات من أبرز الحلفاء الاستراتيجيين لفرنسا، قررت في مطلع 2025 تسليم قاعدة "بورت بويت" القريبة من أبيدجان، منهية وجودًا عسكريًا امتد لأكثر من خمسين عاماً.

ثالثاً: الأبعاد الاقتصادية والتاريخية لتآكل النفوذ الفرنسي

رغم أن فرنسا لا تزال تحافظ على روابط اقتصادية ومصالح استثمارية في أفريقيا، إلا أن المعطيات تظهر تراجعاً حاداً في حصتها من السوق الأفريقي. فخلال العقدين الماضيين، تقلصت حصة باريس إلى النصف، رغم تضاعف صادراتها إلى القارة. ويُعزى هذا التراجع جزئيًا إلى تسارع النمو الاقتصادي في أفريقيا، واتساع قاعدة الشركاء الدوليين، إلى جانب فقدان الثقة في دور فرنسا التقليدي كمظلة أمنية وتنموية لدول المنطقة.

كما أن إرث "فرانسافريك" لا يزال يُثقل علاقة فرنسا بدول مستعمراتها السابقة. فقد ظلت باريس لسنوات تُتهم بممارسة شكل من أشكال الهيمنة الاقتصادية والسياسية عبر شبكات النفوذ والشركات متعددة الجنسيات، خاصة في قطاعات النفط والاتصالات والبنى التحتية. ومع ضعف قدرتها على تحقيق الاستقرار الأمني – كما في مالي والنيجر – بدأت تتراجع صورتها كحليف موثوق، لتحل محلها تصورات أكثر نقداً وشكًّا.

رابعاً: من يملأ الفراغ؟ خريطة جديدة للنفوذ في أفريقيا

مع تراجع الحضور العسكري الفرنسي في غرب ووسط أفريقيا، بدأت خريطة النفوذ في القارة تُعاد رسمها بشكل متسارع. فقد تقدمت روسيا لملء الفراغ الأمني، مستفيدة من عقود جديدة غير مشروطة مع أنظمة عسكرية انتقالية، كما في مالي وبوركينا فاسو، حيث لجأت هذه الحكومات إلى عناصر مجموعة فاغنر لتعزيز الأمن الداخلي، وفقًا لتقارير نشرتها وكالة الأناضول وموقع Debuglies، الذي أشار إلى ازدياد الاعتماد على المرتزقة الروس في أعقاب تدهور العلاقات مع باريس. وقد أثار هذا التحول جدلاً واسعًا في الأوساط الحقوقية والإعلامية، في ظل تواتر التقارير بشأن انتهاكات محتملة لحقوق الإنسان وتصاعد التوترات الاجتماعية نتيجة انخراط فاغنر في المهام الأمنية المباشرة.

في المقابل، انتهجت الصين نهجًا مختلفًا أكثر هدوءًا وانتشارًا، حيث ركّزت على ترسيخ حضورها الاقتصادي عبر استثمارات ضخمة في مشاريع البنية التحتية، شملت الطرق والموانئ والطاقة والسكك الحديدية، بحسب ما أوردته Financial Times. كما عززت بكين حضورها العسكري عبر قاعدة دائمة في جيبوتي، وهي أول قاعدة صينية رسمية خارج الأراضي الوطنية، وسط مؤشرات على نوايا لتوسيع هذا التواجد في دول أفريقية أخرى، بحسب تحليلات نشرتها ECFR.

في السياق ذاته، برزت الحركات الوطنية المناهضة للوجود الفرنسي، وعلى رأسها حركة "M62" في النيجر، التي قادت احتجاجات شعبية واسعة ضد بقاء القوات الفرنسية، خصوصًا بعد انقلاب يوليو 2023، وهو ما دفع النظام الجديد إلى المطالبة برحيل القوات الفرنسية، كما وثقته تقارير وكالة الأناضول. وقد تكرّر هذا السيناريو في مالي وبوركينا فاسو، حيث أُجبرت القوات الفرنسية على المغادرة تحت ضغط الشارع، وسط مظاهرات شعبية رافقتها رمزية التحرر من "الإرث الاستعماري".

وعلى صعيد العلاقات الخارجية، بدأت العديد من الدول الأفريقية بالابتعاد عن نموذج التحالف الثنائي مع باريس، لتتجه نحو شراكات أمنية متعددة الأطراف. فقد أظهرت تحليلات إقليمية – منها ما نُشر عبر Debuglies وECFR – أن دولاً مثل تشاد وغينيا بدأت في تنويع خياراتها الأمنية، عبر التعاون مع الولايات المتحدة، الإمارات، المغرب، وتركيا. ويعكس هذا التحول رغبة متنامية في التحرر من الهيمنة الفرنسية التقليدية، وبناء انماط من العلاقات أكثر توازنًا واستقلالية تتماشى مع الطموحات السيادية الجديدة في القارة.

خامساً: تحديات ما بعد الانسحاب الفرنسي

أحد أبرز تداعيات الانسحاب الفرنسي من دول الساحل وغرب أفريقيا هو الفراغ الأمني الكبير الذي خلفته القوات المغادرة، خصوصًا في مناطق تعاني أصلًا من هشاشة في البنية الأمنية وتراجع في مستوى التنسيق الإقليمي. فقد أظهرت تقارير ميدانية أن الجماعات الجهادية، وعلى رأسها تنظيمات تنشط في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، استغلت هذا الفراغ لتوسيع نطاق عملياتها، مستفيدة من ضعف القدرات الاستخباراتية والعسكرية الوطنية، مما زاد من وتيرة الهجمات وتهديد الاستقرار الداخلي. ورغم أن هذا الانسحاب يُنظر إليه من قبل العديد من الحكومات والحركات الشعبية بوصفه انتصارًا للسيادة الوطنية، إلا أن هذه السيادة ما تزال تواجه اختبارًا صعبًا، يتمثل في قدرة هذه الدول على حماية حدودها وتأمين مواطنيها دون اللجوء إلى دعم أجنبي مباشر. فالشعارات السياسية التي تربط رحيل القوات الأجنبية بتحرير القرار الوطني تحتاج إلى ترجمة عملية عبر بناء مؤسسات أمنية قادرة على ملء الفراغ بشكل فعّال ودائم. وفي هذا السياق، بدأت باريس تعيد تشكيل استراتيجيتها العسكرية في أفريقيا، مبتعدة عن نموذج القواعد الدائمة والتمركز المباشر، ومتجهة نحو نموذج جديد يقوم على التدريب المشترك، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، ودعم قدرات الجيوش المحلية دون تدخل ميداني مباشر. ومع أن هذا النموذج قد يُنظر إليه بوصفه خطوة نحو شراكة أكثر توازناً واحترامًا للسيادة، إلا أنه لا يزال موضع اختبار في ظل تصاعد نفوذ قوى منافسة مثل روسيا والصين، التي تقدم عروضًا أكثر مرونة وأقل ارتباطًا بالشروط السياسية الغربية التقليدية.